الأحد، 7 أغسطس 2022

إقبال والحب الذي يربطه بجامع قرطبة

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

إقبال والحب الذي يربطه بجامع قرطبة

     كثيرة هي الآثار التي تمر بها أو تمر بك من دون أن تترك فيك أثراً عميقاً أو شعوراً بالقرب منها؛ على الرغم من أن هذه الآثار ربما تكون ذات جمال فائق، وصنعة رائعة، وذوق وأناقة.

     لكن آثاراً أخرى تمر بها فلا تنساها، وتتوقف عندها فتظل وقفتك هذه محفورة في حسك وأعصابك ووجدانك على الرغم من تعاقب الليالي وكرِّ الجديدين، ويمكن رد السبب الى ألفة روحية تنشأ بينك وبينها، فتربط هذه الألفة بينكما برباط وثيق، وتسكن في أعماقك وتتأصل.

     ولا شك أن جامعاً ضخماً كجامع قرطبة لا يقف عنده المرء وينساه، بل إن وقفته تلك تضرب عميقاً في وجدانه، وتتغلغل في أعماقه، فهو جامع لا كالجوامع العادية لأنه أدى دوراً تاريخياً رائعاً، فقد كان واحة للإيمان تقوم فيه صفوف المسلمين تعبد الله تعالى واقفة ساجدة راكعة، ويدوي فيه الأذان، ويتلى فيه القرآن، وتؤدى فيه خطب الجمعة وما إلى ذلك.

     لكن هذا الجامع العظيم كان إلى جانب ذلك كله مثابة للعلوم والآداب، وكان خلية نحل يفد إليها الطلاب من كل جانب، وكان يستقبل العلماء من الشرق والغرب كما يستقبل الطلاب، لذلك أدى دوره مركزاً من مراكز الحضارة المنشئة المبدعة أحسن الأداء، وساهم في تحضير أوروبا وتمدينها حين كانت الأندلس من أهم معابر الحضارة الاسلامية إلى أوروبا.

     هذا كله إلى جانب فخامة البناء وسعته، وجماله وبساطته، وتفرده وقوته، جعلَ الجامعَ العظيم يحتل في قلوب المسلمين منزلة رائعة، وتقوم بينه وبين كل مسلم غيور ألفة روحية، وصداقة ومحبة، وتواصل قلبي عميق.

     وحين وقف الشاعر العظيم محمد إقبال في هذا الجامع الخالد طفق يقول له: "تدين أیها المسجد العظيم في وجودك لهذا الحب البريء، ولهذه العاطفة القوية التي كتب لها الخلود، فهي لا تعرف الزوال والانقراض".

     إن الشاعر يشير إلى العاطفة الدينية الكريمة التي حملت المسلمين على الفتوح حتى وصلوا الأندلس، فشادوا فيها وعمروا، وكان مما شادوا وعمروا هذا المسجد الكريم بصدق وإخلاص وحب ووفاء، فتميز بذلك على سواه من المباني التي هي حجارة فحسب، لَمْ تخالط بناتها لوعة، ولم تتدفق فيهم عاطفة من عواطف الحنان والإيمان، لذلك خاطب إقبال الجامع العظيم قائلاً له: "إن البدائع الفنية إذا لم ترافقها العاطفة، ولم يسقها دم القلب؛ أصبحت مصنوعات سطحية من لون أو قرميد أو حجر أو لفظة أو كتابة أو صوت لا حياة فيها ولا روح.

     إن الشوامخ الفنية لا تقوم إلا على العاطفة والإخلاص، والحب هو الذي يفرق بين قطعةٍ من الحجر وقلبٍ خفّاق حنون من البشر، فإذا فاضت منه قطرة على الحجارة الصماء خفقت وعاشت، وإذا تجردت منه القلوب الإنسانية جمدت وماتت".

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة