الأحد، 7 أغسطس 2022

محمد إقبال وفيض الذكريات في جامع قرطبة

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

محمد إقبال وفيض الذكريات في جامع قرطبة

     ما كان محمد إقبال وحيداً حين دخل إلى جامع قرطبة يزوره عام (1932م) إبان رحلته إلى إسبانيا، وما كان وحيداً حين طفق يتجول في أبهائه وفِنائه، وينظر إلى سقوفه وأعمدته، فالجامع الخالد درة معمارية، والسائحون يفِدون إليه بكثرة، لكن شاعرنا الكبير كان وحيداً في خطراته وسبحاتِه، وتأملاته وسوانحه، وذكرياته وأشواقه، وأحزانه وأفكاره، والعبرةِ التي كان يتلمَّسُها في العظةِ الأندلسية، والشعر الذي كان يختلج في فؤاده ليكونَ واحدةً من دررِ قصائده وهي "في جامع قرطبة".

     وصلى الشاعر في الجامع الذي لم يعرف الصلاة منذ دهور، وسجد على أرضه التي طالما سجد عليها المؤمنون الصادقون، وتلا شيئاً من القرآن الكريم في ذلك الجامع الذي طالما ارتجّت أبهاؤه بأصوات الناس يقرؤون في كتاب الله عز وجل، وتناقلت جنباته دويَّ الأذان يرفعه المؤذنون على منائره العالية.

     تذكر الشاعر ذلك الأذان الذي كان يدوي في الجو، ذلك الأذان الذي يلخص في كلماته القليلة حقائق الإسلام الكبرى، فالله عز وجل هو الواحد الذي ليس له شريك، وهو أكبر من كل ما سواه أيّاً كان، والرسول الكريم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم هو رسول الله جاء برسالة الإسلام التي بعثه الله تعالى بها، وهذه الرسالة هي رسالة الفوز والفلاح ودرب الهداية والسعادة.

     إن هذا الأذان هو إعلان يومي متكرر لأساسيات الإسلام العقيدية، انفردت به الأمة المسلمة دون الناس، إذ إنه ليس له نظير في الأصوات والهتافات، والإعلانات والرسالات، لا يشبهه ناقوسٌ يُقرَع، ولا بوقٌ يُنفَخ، ولا نارٌ تُوقَد، ولا أي وسيلة أخرى من وسائل الإعلان.

     تذكر الشاعر ذلك الأذان العظيم، الذي كان يخشع له الكون، ويضطرب له العالم، وتتزلزل به أوكار الفساد والطاغوت، ذلك الأذان الذي تنفّس له الفجر الصادق في العالم في القرن السادس الميلادي، وانطلقت به موجة من النور والهداية سعدت بها الدنيا، وعاشت على طريق الاستقامة والهدى، واليوم ليس بين العالم الضائع التائه، الغارق في ماديته، المنحرف عن سواء السبيل، وبين هذه الموجة من النور والهداية، إلّا أن يستجيب لدعوة هذا الأذان، وهي رسالة الإسلام الخالدة المحفوظة، التي يحملها هذا الأذان في الآفاق كل يوم خمس مرات، معلناً مبادئها العظيمة، مبلغاً معانيها السماوية، فإن استجاب نجا وفاز، وسعد في دينه ودنياه؛ وإلّا ظل في الضلال تائهاً يتخبط، ينتقل من تيهٍ إلى تيه، ويعالج مشكلة مستعصية بدواء يسبب له مشاكل مستعصية جديدة.

     امتلأ إقبال يقيناً بأن الأمة التي استجابت لداعي الأذان، ودانت بعقيدته، وعاشت لرسالته، هي أمة الخلود التي لا تموت ولا تفنى وإن مرّت بها الشدائد والصعاب، وتوالت عليها النكبات والخطوب، امتلأ يقيناً بهذا، وهو في الجامع التاريخي العظيم، جامع قرطبة، يفكر ويتأمل ويتدبر، وحرّك هذا المنظر الرائع، والأثر الباذخ، والمسجد المحزون الفريد، الذي لم يعرف منبره الخطبة، ولم تشهد أرضه الصفوف، ولم تعرف منائره الأذان منذ قرون، حرّك في الشاعر الكبير؛ الإيمانَ والحنان، والأسى والحزن، وجادت قريحته الوقادة بقصيدته الرائعة التي أسماها "في جامع قرطبة"، والتي كتبها في إسبانيا، وكتب أكثرها في قرطبة نفسها.

     ذكر إقبال في قصيدته أن هذا العالم خاضع للفناء، وأن الآثار التي تخلّفها الأجيال، وأن البدائع الفنية التي تنتجها العبقرية الإنسانية بين حين وآخر، كُتِب عليها الاندثار والاضمحلال، ولا يعيش من بينها إلا ذلك الأثر الذي أكمله عبدٌ مخلصٌ لله، وأضفى عليه حيويته وخلوده، لأن عمله يستمد الحياة والنور من عاطفته المؤمنة، ومن حبه القوي الخالص.

     والحب عند الشاعر الكبير عاطفة لا صلة لها بالجنس والغرام، تسمو على المادة والمعدة، وتجمع بين الإيمان والحنان. وهذا الحب وحده هو القوة الوحيدة التي تقف أمام دورة الدهر الذي لا يكف عن الجريان، ولا يثبت لها شيء لأنه قوة كبيرة أمام قوة مماثلة، وسيل دفاق أمام سيل دفاق آخر.

     وعاطفة هذا الحب الفريد المتميز، الذي لا يشاكل أي لون آخر، عاطفة جياشة نبيلة، حافلة بأسمى المشاعر، وأكرم الأحاسيس، وهي عاطفة فياضة طهور، عميقة صدوق، لأنها قبس من أقباس الإيمان، وشعاع من شعلته، وبها كانت مواقف وحالات، فطالما حملت القائدَ على الشجاعةِ فانتصر في المعركة، والمصلي على الخشوع فبكى في المحراب، والعالِمَ على الحق فقال كلمته غير هيّاب سعيداً بتقديم رأسه في سبيل الله جل جلاله.

      وما من شك في أنها واحد من الدوافع الكبيرة التي حملت المسلمين على الخروج والمغامرة حتى وصلت بعض كتائبهم إلى الأندلس، فأقامت فيها دولة للإسلام شامخة عالية، كان من بعض معالمها في عاصمتها قرطبة، ذلك الأثر الخالد، جامع قرطبة المشهور.

      لقد طُويت الصفحة الإسلامية في الأندلس، عقيدةً وشريعة، ونظام حكم يسود الناس، ويحقق لهم السعادة والهداية، ويقودهم في درب الفلاح، الفلاح في الدنيا، والفلاح في الآخرة؛ طُويت هذه الصفحة من سِفْر الأندلس يوم مصرع غرناطة عام (1492م)، حين سلّم أبو عبد الله الصغير آخر حكام غرناطة مفاتيح بلده للملِكَيْن الكاثوليكيين فرديناند وإيزابيلّا.

     وبعد أن طُويت هذه الصفحة؛ جَرَتْ حملة شديدة، عنيفة دامية، لملاحقة كل آثار الحياة الإسلامية وبقاياها حتى باد معظمها، وصار أثراً بعد عين، لكنَّ زائر الأندلس يكاد يشعر بالروح العربية المسلمة حيث يذهب، وكأن القرون الطويلة الدامية لم تستطع القضاء إلّا على المظهر المادي الخارجي لتراث العروبة والإسلام.

      إنك إن زرت مسجد قرطبة ستخامرك مشاعر كتلك التي خامرت محمد إقبال يوم زاره، لكنك في غير قرطبة ومسجدها، وغرناطة وحمرائها، تكاد تشعر أيضاً بعبق خفي نبيل من العروبة والإسلام يلقي عليك السلام حيثما ذهبت في الأندلس التي اهتدت بنور الإسلام ثمانية قرون.

      لا غرابة أن يشعر الإنسان بأواصر القربى والنسب والمعتقد حين يكون في الأندلس، أندلس العطر والجمال، خاصة إذا كان شاعراً رهيف الحس قوي الشعور.

     ومرةً كان شاعر عربي يجوب حمراء غرناطة متذكراً متعجباً، مفتخراً محزوناً، لكنه كان صامتاً على كل حال، ولكنْ حين قالت له الدليلة الإسبانية مشيرةً إلى عظمة الحمراء: إنها من صنع أجدادها، شعر كأن طعنة أصابته، وتمنّى لو أن هذه الدليلة علمت أن سادة الحمراء وصانعيها ومبدعيها هم أجداده العرب المسلمون وليسوا أجدادها، وهم أسلافه العظام الفاتحون، وليسوا أسلافها.

الزخرفــاتُ أكـــادُ أسمعُ نبضَــها     والزركشاتُ على السقوفِ تنادي
قالتْ: هنا الحـمراءُ زَهْـوُ جدودنا     فـاقــرأْ على جــدرانِها أمجـــادي
أمجادها؟! ومسحتُ جرحـاً نازفاً     ومســـحتُ جرحــاً غائراً بفؤادي
يا ليتَ وارثتي الجميــــلةَ أدركتْ     أنَّ الــذين عَنَـــتْهُمُ أجـــــــــدادي

     وما يدري الشاعر الجريح؛ فلعلها قصدت أجدادها الذين هم أجداده!؟

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة