الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته
محمد إقبال وجامع قرطبة
وقف الشاعر العظيم محمد إقبال رحمه الله تعالى عام (۱۹۳۲م) إبان زيارته لإسبانيا ومروره بجامع قرطبة العظيم أمام العاطفة القوية، والحب الطاهر، والوفاء الكريم، الذي حمل مسلمي الأندلس على بناء هذا الجامع العظيم، على أساس من التقوى والإيمان.
وقف وقفة خاشع أمام الطموح الضخم الذي أوصل العرب من شبه جزيرتهم العربية إلى شبه جزيرة الأندلس؛ يحدوهم نداء الإيمان، وتعلوهم: الله أكبر!.. وقف قفة خاشعٍ أمام الجرأة وآثارها الكبيرة، خاشعٍ أمام العبقرية المعمارية التي أنتجت هذا الأثر الخالد، خاشعٍ أمام الفن العربي الإسلامي الذي ظهر في تصميمه الحكيم، وبساطته الرائعة، وجماله الفريد، وأثار ذلك كله أشواقه ولواعجه وإيمانه وشاعريته.
ورأى إقبال أن هذا المسجد الفريد صورة للمسلم في تلك الأرض الحنون، تجلت فيه أخلاق المسلم وصفاته وخصائصه المستقلة المتميزة: علو في الهمة، واتساع في القلب، وبساطة في المظهر، وبراءة في النية، وثبات على الحق، وإعلان للعقيدة والمبدأ، واستعلاء وإباء، واعتزاز وشموخ، وطموح ضخم كبير، وعزيمة راسية راسخة، وثقة هائلة عميقة، وجَمْع بين الجلال والجمال، والأنفة والتواضع، والبطولة وحسن الخلق.
وتذكر بهذا المسجد الحزين، أهله الذين رفعوه وشادوه، وتذکر بهم العقيدة التي كانوا يعيشون لها، ووهبوا أنفسهم لها، فعادت علیهم هذه الهبة بأكرم الثمار، عادت عليهم برضوان الله عز وجل، والأمل بثوابه وجنته في الآخرة، كما عادت عليهم بالفوز في هذه الدنيا، والمجد والظهور، فما أحسن هذا البيع!.. وما أكرم عقباه ومآله!..
لقد بُني هذا الجامع العظيم في مدى طويل امتد مئتين وعشرين عاماً، وكان أول من شاده عبد الرحمن الداخل، وظل يزاد فيه ويوسع، وكانت التوسعة الأخيرة على يد الحاجب المنصور بن أبي عامر، فاكتمل بناؤه، وطفق يؤدي دوره في الهداية والعلوم، واحة للإيمان، وجامعة للمعارف، فكان من أشهر مساجد الدنيا جميعاً، ومن أعظم جامعاتها، وظل يقوم بدوره الرائد في الحضارة حتى دار الزمان، وقصّر المسلمون، وأدركتهم سنن الله تعالى التي لا تتخلف ولا تحابي أحداً قط، فسقطت قرطبة في يد الإسبان، وتوقف المسجد عن أداء دوره، وبقيت مبانيه حتى اليوم عبرة في ضمير الزمان، بالغة ناطقة، تهيب بالمسلمين في كل مكان ألا ينسوا دروسها التي كان ثمنها فادحاً جداً جداً: سقوطَ دولة، ومصرعَ أمة، وزوالَ دين.
لعل فلسفة القوة بمعناها الإسلامي الواسع هي ملخص نظرية الشاعر الكبير محمد إقبال واتجاهه الفكري الذي ظل طيلة حياته يدعو إليه. وإنَّ هذا الذي فعله إقبال لأمرٌ بالغ الجلال والخطورة. ذلك أن التاريخ أثبت المرة بعد المرة، والكرة بعد الكرة؛ أن الشعوب التي تُعنى بالفنون عناية بالغة، وتنصرف إلى حياة الكسل بدل الجد والصبر والعناء، ويكثر فيها الجدل البيزنطي العقيم، وتضعف فيها الإرادة، وتفشو فيها وسائل الترف والملذات، وتخبو فيها نار الغيرة والحمية، وتتضاءل فيها نوازع العزة والنخوة. وتنتشر فيها فوضى الأفكار وبلبلة الآراء، ويغلب عليها الشك بدل اليقين، والاستخفاف بدل الجد.. أثبت التاريخ أن هذه الشعوب لا تثبت أمام عدو زاحف، أو خصم مقاتل. والشواهد على ذلك كثيرة: قصة اليونان، وقصة الرومان، وسقوط الأندلس، واستسلام فرنسا لألمانيا الهتلرية في الحرب العالمية الثانية، وغير ذلك كثير.
إذن؛ فتحرير الأمة المسلمة من دواعي الوهن والعجز، وغرس معاني القوة والبطولة فيها أمر خطير.. جد خطير. وهو ما حاول إقبال أن يضعه، وهو ما نجح فيه إلى حد بعيد.
وحين نظر إقبال إلى الأثر الفاتك المدمر لفلسفة الحضارة الغربية واتجاهها الأخلاقي في نفوس المسلمين، شن حرباً لا هوادة فيها ضد الغرب الحضاري ومدنیته المادية الآثمة الباغية. وعلى الرغم من أن آخرين سوى شاعرنا الكبير كانوا يؤدون الدور نفسه؛ إلا أنه لم يكتب لهم ما كتب له من الأثر والنتيجة. فهم لم يملكوا موهبته الشعرية العظيمة من ناحية، ولم تتح لهم فرصة الاطلاع العميق على حضارة الغرب وثقافته من ناحية أخرى.
أما هو فقد كان الرجل الوحيد في عصره الذي ما كان يداينه أحد في تعمقه فلسفة الغرب وثقافته، وإحاطته بحضارته وحياته، وبصره العميق الدقيق بجوانب ضعفه وقوته، لذلك حين نهض يفند فلسفته وأفكاره كان يستمد من معين ثر غني دفّاق. فكان أن أذاب سحر الحضارة الغربية الذي كان يبهر القلوب، ویستولي على النفوس، ويستأثر بالاهتمام، والحقيقة أن لإقبال أثراً بليغاً في قمع ذلك الرعب الفكري والهزيمة النفسية من قلوب المسلمين إزاء هذه الحضارة المهاجمة.
ومما لا ريب فيه أن الشاعر الكبير لم يألُ جهداً في إنقاذ المسلمين من عبوديتهم الجسدية، وتلقينهم درس الحرية، لكنه ركز جل تفكيره على إنقاذهم من العبودية الفكرية. ولعل هذا أوفى تلخيص للموقف الكبير الذي اتخذه الشاعر الكبير.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق