الأربعاء، 3 أغسطس 2022

من أدب محمد إقبال

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

من أدب محمد إقبال

كـــلُّ مَنْ أنــــــكـرَ ذاتِيَّـــــتَــهُ     فَهْوَ أولى النــــاس طُرَّاً بالفناءْ
لن يرى في الأرضِ شخصيتَهُ     كلُّ مَنْ قـــلَّدَ عيشَ الغربـــــاءْ

     هذان البيتان اللذان قالهما الشاعر الكبير المؤمن الدكتور محمد إقبال، لهما معنى عميق بليغ يجدر بالأمم أن تستفيد منه، وهما يعبِّران عن جملة من الحقائق النفسية والاجتماعية في مسيرة الشعوب في تاريخها صعوداً أو هبوطاً.

     إن للمرء أن يؤكد بأنه ما من أمة في التاريخ فقدت قدرتها على الاحتفاظ بشخصيَّتها، والاستقلال بمنابع فكرها المتميز؛ إلا تبددت وانهارت وأسلمت طائعةً أو كارهة لغيرها القياد.

     وما من أمة في التاريخ خسرت إيمانها بقضيتها الأساسية التي كان عليها أن تضع في سبيل حمايتها وصيانتها كل الذي تملك؛ إلا فقدت سيادتها وقدرتها على الكفاح.

     وإن بين الحفاظ على الشخصية والاستقلال بمنابع الفكر من ناحية، وبين الاندفاع في سبيل القضية الأساسية من ناحية ثانية، علاقةً وثيقةً جداً، فبقدر ما يكون الاحتفاظ والاستقلال قويين بارزين مستحوذين على الاهتمام والجد والفاعلية، يكون العمل الجاد الدؤوب من أجل القضية الأساسية قوياً بارزاً مستأثراً بطاقة الأمة ونشاطها، والعكس بالعكس.

     ولقد كان العرب قبل الإسلام جماعةً من البشر لا قضية لها تحقق وحدتها، وتعيِّن هدفاً مشتركاً عاماً لها، وتعبِّئ طاقاتها الكفاحية في مسيرة إيجابية صادقة صوب هذا الهدف المشترك؛ لذلك كانت جهودهم تضيع هدراً في جملة من التناقضات التافهة، والأحقاد الصغيرة، على فخار يتطاول زوراً وبهتاناً، أو مجد ضائع فيما لا طائل وراءه، أو حرب تقوم بسبب سباق بين فرسين، أو بسبب ناقة اعتدي عليها وما إلى ذلك، فكان أن تفرَّقت بهم السبل فإذا هم ضائعون مشرَّدون، بأسهم بينهم شديد، وليس لهم فكر مستقل محدد الملامح، ولا شخصية خاصة واضحة السمات، ولا قضية كبرى يتمسَّكون بها وعنها يدافعون.

     هذه الأمة نفسها بُعِثَ فيها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فإذا بالأمر يختلف تمام الاختلاف، بعد أن ألقت إليه الأمة قيادها. لقد نشأت لها شخصية مستقلة وفكر خاص، وتحدد لها لون شديد الوضوح، يختلف عن كل لون آخر، ومعالم واضحة، وسمات بيّنة، وملامح في غاية الجلاء. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نشأت لها قضية لا كالقضايا، قضية كبيرة جداً، هي حمل رسالة الإسلام للناس حيث كانوا، والقيام على حرية اعتناقها، وحراسة مواكبها من الحاقدين والظالمين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متمُّ نوره ولو كره الكافرون. ومن الجلي أن الناحية الأولى مقدمة للثانية تمهِّد لها وتفضي إليها.

     وسجل التاريخ أن أمة العرب يومذاك تحول حالها، وتغيرت تغيراً جذرياً، فإذا بها تجعل هدفها في الحياة هو إعلان كلمة الله تعالى وإعلاؤها، واستحالت نخوتها وبطولتها وطاقاتها الكثيرة المبعثرة؛ إلى مادة للقوة والاندفاع تحقق النصر لدين الله، وتُعْلي رايته، فكان أن تطامنت رؤوس الكافرين، وانهارت قواعد الظلم، وتساقط أعداء الله تحت مطرقة الزحف المسلم الشجاع، وتراجعت حدود دول كثيرة وباد بعضها نهائياً، واستمر نجم الأمة المؤمنة في تصاعد وظهور. فلما فقدت الأمة روح المبادرة، وأضاعت ينابيع فكرها المستقل، وفقدت خصائصها الشخصية النادرة، تبدل به الحال شر تبدل، فإذا بها تُؤثِر العافية ،وترضى الدنيَّة في أمرها، وتتطامن بعد شمم وإباء، وتلتمس السلامة في الانطواء على نفسها، وتدفع ثمن ذلك غالياً؛ وهو التخلّي عن دورها قيِّمةً على الناس، وصيَّةً على البشرية قائدةً هاديةْ. لكنها بالرغم من فداحة ما دفعته من تنازلات لم تستطع الحصول على العافية الكسول، أو السلامة المرذولة. وما شأن الأمة في عصرها الأخير ببعيد عنا، فالجراحات ما زالت فاشية فيها، والكلوم كثيرة هنا وهناك.

     ويمكن للمرء أن يخلص مما تقدم إلى معادلة هامة تصاغ هكذا: حيث يتم الاحتفاظ بشخصيتنا، والاستقلال بمنابع فكرنا وتراثنا، فإن انصرافنا إلى قضايانا الكبرى الأساسية يغدو أكبر جداً وفاعلية ونشاطاً، وتكون ثمار ذلك أحسن ما تكون. والعكس بالعكس، فإذا لم يتم ذلك الحفاظ والاستقلال كانت العاقبة الوخيمة، وكان الأذى والدمار والهزيمة.

     وما مِن ريب في أن أمتنا لم تضع هذه المعادلة في إطارها الصحيح، ولم تستفد منها، وهذا هو سبب ما تلقاه من نكبات. على أن الإنصاف يجعلنا نقرر أن هذه الأمة لا تزال تملك من النخوة والأصالة والتفرد، ما تستطيع به وضع المعادلة في مكانها الصحيح، وعندها سيختلف الحال تماماً، وتنقلب الأمور لمصلحتها بشكل حاد عنيف. وهي تحتاج -حتى يتم ذلك- إلى أن ينهض عدد من أبنائها من ذوي الجرأة الفكرية، والتمسك بالحق ولو كان مُرّاً، ليقولوا للأمة ها هنا هو الطريق، وتلكم ملامحه ومعالمه.

     فإذا كان ذلك، بدأ عهد التحول الحق والنهضة الصادقة، وعهد الانخلاع من الثقافة الانهزامية والفكر الضال، وعهد التحرر من الشعور بالنقص والإحساس بالصَّغار. وهو شعور قاتل سيطر على عدد من حملة الأقلام، لذلك لم يظلمهم مستشرق يهودي فرنسي لقيهم في بيروت عقب نكبة (1967م) وقال لهم: ما حيلتي -أيها السادة- إذا كنتم تعوَّدتم أن تستوردوا أفكاركم من الخارج!؟

     نقطة البداية إذاً أن نكف عن استيراد الحلول لمشكلاتنا من الخارج، ونُعْنى بالحفاظ على شخصيتنا وفكرنا المستقلين، ليتسنى لنا الانصراف إلى قضايانا الكبرى، والخروج منها غالبين ظافرين.

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة