الثلاثاء، 2 أغسطس 2022

مواقف إقبال الفكرية .. كشفت عن شجاعته وذكائه وأصالته

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

مواقف إقبال الفكرية .. كشفت عن شجاعته وذكائه وأصالته

     من الإنصافِ لأمتنا، ومن الإنصاف لرجالها الكرام، ذوي المواقف الفكرية، أن نقررَ أن الموقفَ الفكري الشجاع الذي وقفه الدكتور محمد إقبال؛ يكشف عن أمرين بالغين: أمرٍ عامٍّ، وآخَرَ خاصٍّ.

     أما الأمر العام فهو قدرة الأمة الإسلامية على إنجاب القادة العظام في أوقات شدتها ومحنتها، وأما الأمر الخاص فهو أن موقفَ إقبال، يمتاز بالشجاعة والجرأة من ناحية، والذكاءِ والعمق من ناحية ثانية، والأصالة والتميز من ناحية ثالثة. وإنَّ نظرةً متأنية في تراث الرجل تكشف عن هذا بوضوح وجلاء.

     ومما لاحظه إقبال أن بعض المسلمين المبهورين بالثقافة الغربية المفتونين بتقليدها، يفرِّقون بين الدين والدولة تقليداً لفكرة الفصل بين الدين والسياسة التي نشرت أوروبا بين تلاميذها عَدْواها البشِعةَ الآثمة، فصاروا بذلك يزعمون أنه لا علاقة بين الدين والسياسة، وأنهما لا يلتقيان على فكرة جامعة. فالدين -كما يزعمون- يعني أموراً تشريعية تعبدية لها رجالها المتخصصون. والسياسة معناها الخوض في أمور دنيوية وحكومية ومعاشية، ولها رجالها كذلك.

     ولقد انبرى الشاعر الكبير محمد إقبال يحارب هذه الفكرة الزائفة الكاذبة ويُبَيِّنُ خَطَلَها في شعرهِ العذب الجميل الذي شاء الله تعالى له أن ينتشر بين الناس، وأن يُكتَبَ له القبول والذيوع.

     ومن أروع أقواله في ذلك: "إذا انفصلت الدولة عن الدين فلن تبقى سوى الهمجية الجنكيزية". ولا شك أنه قدَّم بهذه المقولةِ الوجيزة المركزة، ملخصاً دقيقاً رائعاً وجامعاً للبحوث الكثيرة، والمؤلفات الكبيرة التي أُلِّفَت أو تؤلَّف حول هذا الموضوع الخطير، فما أغدر السياسة إذا انفصلت عن هَدْي الدين، وما أفتكَ الدولة إذا تنكَّبت نوره وطريقه.

     إن أمر الدولة والسياسة لا يستقيم قط ما لم يصحبه الدين مرشداً ودليلاً، وإنه سيقع في كل المهالك، ويتخذ جميع الوسائل الكاذبة حين يجافيه. وإنه سوف يقود السفينة نحو النجاة، ويصطنع الوسائل الصادقة النافعة الكريمة حين يهتدي بهديه، ويستضيء بنوره.

أكَّد الشاعر العظيم ذلك للمسلمين، كما أكَّد لهم أنهم أمةٌ ذات عقيدة واحدة، وحضارة واحدة، وأن حضارتهم تختلف عن حضارة الآخرين الذين يفترقون عنهم في العقيدة والإيمان، لأنها ربّانيةُ المصدر، إنسانيةُ النفع. بينما الحضارات الأخرى ماديةُ المصدر، قومية النفع. وبذلك أوقدَ في قلوب المسلمين الشعورَ بالوحدة، وأعلن لهم أن الأمة الإسلامية في العالم كلِّه وحدةٌ متماسكةٌ وجسدٌ حيٌّ متكاملُ البنيان.

وإذا كان المسلمون في العالم عامةً، وفي القارة الهندية خاصة، يُلِحُّون على إبقاءِ كيانهم الحضاري، وتراثهم المتميز، وشخصيتهم الأصلية، وذاتيتهم المستقلة؛ فإن ذلك يعود –وبدرجة كبرى– إلى تلك الروح الحية الجياشة التي أوقدها الشاعر محمد إقبال في أفئدةِ المسلمين؛ من أجل هذا يمكن لنا أن نقررَ مِن دون مبالغة أو تعسف أن إقبالاً واحدٌ من عظامِ الرجال في الأمة الإسلامية، النجيبة الولود، الذكية المعطاء، الذين يظهرون بين الحين والآخر، فيبذلون جهودَهم لتحرير الناس من الأوهام والأساطير والضلالات والجهالات والخرافات الجديدة التي تظهر في أشكال عنصرية براقة، وتحاول أن تلبسَ مسوح العلم والحضارة لتكون أقدرَ على خداع الساذجين والبسطاء.

لقد فعل ذلك إقبال مازجاً بين عمق فكرته، وحماسةِ عاطفته، وبيانِه المشرق الرائع. فعل ذلك يحدوه حرصه العظيم على أمته المسلمة، أداءً لواجب الإبلاغ، واستشرافاً لبناءٍ أكمل وغدٍ أفضل، ومستقبلٍ أنصعَ وأطهر.

لقد أرادَ إقبال لأمته المسلمة أن تمتلك أسباب القوة المطلوبة منها بحكم إسلامها، فهي بهذا الإسلام الراشدةُ الوصيةُ، ولا بد للراشد الوصي مِن أن يمتلك درجةً من القوة تهيئ له القدرة على القيام بهذا الدور الكبير. أراد لها قوةً في العقيدة، وقوةً في الأخلاق، وقوةً في التنظيم، وقوةً في الإعداد. كما أراد لها أن تتجاوز مواقف السلبية والهوان، والضعف والكسل، والعجز والتواكل. وأن تصير أمةً شجاعةً لا جبانة، قائدةً لا مقودة، مبدعةً لا مقلدة، حرةً لا أسيرة، ذكيةً لا غبية، متماسكةً لا متفرقة، قويةً لا مهترئة. أراد لها أن تكون عزيزةً كريمةً منيعة. أراد لها أن تكون جديرة بالإسلام الذي تنتسب إليه.

لقد كان إقبال -وهو الشاعر والمفكرُ النافذُ البصيرة- حريصاً أشدَّ الحرص على أن يتخلص المسلمون من كل السلبيات، ويرتفعوا إلى آفاق البطولة والسيادة والطموح، ويستشرفوا شوامخ القيادةِ والريادة، وحب العبادة، والحنين إلى الشهادة.

كان حرصه حاراً ملحاحاً أن يتقدم المسلم لإنقاذ البشرية كلها من قياداتها الخاطئة؛ لذلك اتجه إليه بمثل هذه القول:

إنَّ هذا العصرَ لـيــلٌ فـــأَنِرْ     أيها المســــلمُ ليلَ الحائرينْ
وسَفيـنُ الحقِّ في لُجِّ الهوى     لا يرى غَيْرَكَ ربّان السفينْ

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة