الطمع القاتل
مستقبل اليهود في فلسطين كما يراه محمد أسد
من أمتع السير الذاتية، وأكثرها تشويقاً، كتاب المهتدي النمساوي "محمد أسد - ليوبولد ﭬايس سابقاً "، الذي روى فيه - من بين ما روى - قصة تحوله من اليهودية إلى الإسلام، وقد ترجم الكتاب إلى العربية، وطبع مرة باسم "الطريق إلى الإسلام"، ومرة أخرى باسم "الطريق إلى مكة". والكتاب جدير بأن يوضع بين أيدي غير المسلمين ممن ترجى لهم الهداية لأنه عون كبير لهم على الوصول إليها. لقد قرأت هذا الكتاب عدة مرات، وفي مراحل مختلفة من حياتي، ومع ذلك لا زلت أجد في قراءته متعة فكرية وأدبية وتاريخية ودعوية. وأتمنى أن ينهض بعض المخرجين بمهمة تحويله إلى فلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني.
وللمرحوم محمد أسد كتاب صغير الحجم اسمه "الإسلام على مفترق الطرق" وهو كتاب عميق الفكر، دقيق النظر، فيه غيرة على الأمة، وتحذير لها من مخاطر التغريب، ولو أن مؤلفه سماه "المسلمون على مفترق الطرق" لكان العنوان أكثر دقة ودلالة. ولقد تمنيت كثيراً أن تتاح لي فرصة لقاء المؤلف، ومحاورته، وسؤاله عما جاء في سيرته الذاتية، وعن مستقبل اليهود في فلسطين، وانتظرت، حتى يسّر الله عز وجل لي ذلك على غير سعي مني ولا تدبير، وكل شيء عند الله بمقدار.
كان ذلك في عام 1399هـ - 1979م، حين وصلت إلى طنجة صيفاً في أول زيارة لي للمغرب العزيز، وقد علمت أن المرحوم كان مقيماً فيها، ومن خلال استعلامات الهاتف حصلت على رقمه واتصلت به، فرحب بي كثيراً، وزارني في الفندق، وهو في غاية السرور، وعانقني وهو يبكي، إذ وجد من يسأل عنه وهو في بلد غير بلده الأصلي، شيخ عجوز، انقطعت جذوره مع ذويه بسبب هجرته وإسلامه، ولا يكاد يعرفه أحد في طنجة، ويعيش مع زوجته في بيت هادئ، واسع، مع الذكريات والوحدة، وأعباء الشيخوخة، ذلك أنه كان في التاسعة والسبعين من عمره، لأنه من مواليد 1900م ولأن له ولداً وحيداً اسمه طلال، من زوجة أخرى يعيش في بريطانيا.
زرته في البيت، وكانت فرحة لي وله لا توصف، وسألني كيف تعرفت إليه فأجبته، لقد كان كالعصفور بلله القطر في يوم صائف، فرح وانتفض، وأخذت الذكريات تتداعى من خلال الأسئلة والأجوبة، وأخذ يريني بعض صوره المحفوظة لديه، ويشرح لي ظروفها، وكأنه وجد من يفرغ لديه شحنة كبيرة، من الخواطر والذكريات والكلام الحبيس، ووجد من يهرب إليه من وحدته ونسيان الناس له. وقد حاولت أن أكون له عوناً حقيقياً في ذلك.
طال الحديث وامتد وتنوع، فوجدت فيه دليلاً جديداً على ذكاء الرجل، وثقافته، ومعرفته العميقة بالمسلمين ما لهم وما عليهم، وبالغرب ما له وما عليه، فضلاً عن مقدرته البيانية، وحسن إدارته للحوار، حتى إني عجبت - ولا أزال - من قلة إنتاجه، مع هذه المزايا المهمة، ومع سعة وقته وعزلته وعمره الطويل.
لم أسأله عن ذلك، وليتني فعلت، لكنني سألته عن أمر أهم. قلت له: أنت رجل يهودي تحول إلى الإسلام تحولاً صادقاً عميقاً، بعد تأمل، ومعاناة، ومقارنة، وترحال، وهو ما يجعلك أقدر منا على التنبؤ بمستقبل صراعنا مع اليهود في فلسطين، فماذا أنت قائل؟
فقال لي: يا بني، اليهود قوم حمقى، لا يتعلمون من عبر التاريخ، ولا يستفيدون من أخطائهم، فيهم الغرور، وفيهم الطمع، وهذا هو المقتل. إنهم يشبهون القرد الذي روى حكايته الحكيم اليوناني "إيسوب" في قصصه التي تشبه قصص "كليلة ودمنة" في أدبنا العربي، وخلاصتها أن رجلاً كان لديه قرد، وذهب خارج بيته لحاجة طرأت له، فسر القرد، ذلك أنه رأى جرّة فيها جوز، فسارع إليه ليأكله، مدّ يده داخل الجرة وأمسك بجوزة وحاول إخراجها فلم يستطع لأن يده تكوّرت بسبب الجوزة التي قبض عليها، فضاقت عليه فتحة الجرة، لذلك لم يكن أمامه بد من أن يترك الجوزة لتعود يده إلى وضعها العادي فيستطيع إخراجها من الجرة، لكن طمعه منعه من ذلك، وظل حاله على ما هو عليه، يده تمسك بالجوزة داخل الجرة وقد تجمدت عليها، حتى جاء صاحبه، فضربه، فحلت به عقوبة مطامعه. قال: وهكذا اليهود في فلسطين، إن عقوبة الطمع تنتظرهم، وسوف يتركون فلسطين كارهين، كما ترك القرد الجوزة في الجرة كارهاً.
لم أنس ما قاله لي محمد أسد وقارنته بسلوك اليهود قديماً وحديثاً، فازددت به اقتناعاً، إن المشروع الصهيوني في فلسطين بلغ ذروته عام 1967م، ثم بدأ يتجمد، ثم بدأ يتآكل، وأمارات نهايته تزداد يوماً بعد يوم، ونحن المسلمين في صعود، وهو في هبوط، والمستقبل لنا بإذن الله، وإن موعدهم الصبح وإن الصبح لقريب.
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق