الإكرام والطعام
الكرم صفة نبيلة محببة ترفع صاحبها عند الناس، وأهم من ذلك ترفعه عند رب الناس، وحسب الكرم شرفاً حث النصوص الشرعية عليه، وإشادة الناس به من قديم الزمان، وتاريخ الثقافة العربية - وغيرها من الثقافات الأخرى - سجل قديم جديد، يشيد بالكرم ويرفعه مكاناً علياً .
والكرم معنى واسع يتجاوز دائرة بذل اليد وبسطها بالعون والمعروف، لأن اليد المبسوطة السمحة تدل على نفسية مبسوطة سمحة، وحب للخير، وحدب على الناس، وثقة عميقة بالله تعالى، وأنه المالك الحقيقي لكل شيء، وأنه الرازق المنعم، وأنه الغني المدبر، وأنه الذي يخلف على الإنفاق بمثله وخير منه.
بل إن الدعوة إلى الله تعالى هي نوع من الكرم يدل على السخاء النفسي لمن يقوم بها، لأنه يشعر أنه امتلك شيئاً نفيساً، يريد للآخرين أن يمتلكوه كما امتلكه، يحدوه إلى ذلك صفاء قلب، وسخاء نفس، وطلاقة روح، وهذا هو الكرم في بواعثه وأعلى ذراه، ولذلك كان كرم النفس أهم من كرم اليد وكلاهما مطلوب.
وإذن فلنا - بل علينا - أن نحب الكرم، ونشيد به، ونحث الناس عليه، ونحذر من البخل ونفضحه، ونبين للناس سوءاته، خاصة أننا مسلمون، والإسلام دين الكرم، وأننا عرب، والعرب ذؤابة الكرم.
ما الذي تريد أن تضيفه هذه الخاطرة إذن مادام الذي سبق تقريره هو من "تحصيل الحاصل" كما يقولون؟
الذي تريد هذه الخاطرة أن تضيفه هو أن الإكرام بالطعام في كل الحالات كما لو كان قاعدة مطردة خطأ ينبغي أن نتجاوزه.
لقد ارتبط عند أكثرنا الكرم بأنه دعوة الآخرين إلى الطعام، والإكثار منه، والتفنن فيه، والإلحاح على المدعوين في تناوله مرة بعد مرة، وربما قال أحدنا لهم مداعباً وحاثاً: الأكل على قدر المحبة.
هذا الإصرار على التعبير عن الكرم بالإطعام باستمرار خطأ ينبغي أن نتجاوزه مهما كانت دوافعه طيبة.
وابتداءً لابد من الإقرار بأن ثمة حالات يغدو فيها الإكرام بالطعام أمراً لازماً، كإنقاذ جائع، أو استضافة صديق، أو أستاذ أو وجيه بعد انقطاع طويل، وبذلك يصبح موضع الاعتراض عما وراء ذلك.
ويبدو الأمرجلياً حين نضرب بعض الأمثلة:
مجموعة من الإخوان يتداولون التزاور فيما بينهم، فيحرص كل منهم على أن تكون مائدته عامرة حباً للكرم من ناحية، وخوفاً من شبهة التقصير من ناحية، ويلتقي هؤلاء الإخوان ويأكلون قليلاً من الطعام الذي هو أضعاف ما يحتاجون إليه، وربما كانوا أحوج إلى الصيام منهم إلى الطعام، بسبب سمنة أو مرض.
أخ قادم في سفر لأمر ما، ووقته ضيق، وأعماله كثيرة، ومع ذلك نصر على دعوته إلى الطعام، ولعله بحاجة إلى أن نعينه في أداء أعماله لا أن نطعمه.
طالب يعد رسالة علمية يحتاج إلينا في خطة البحث، أو اختيار الموضوع، أو تأمين المراجع، فنشغله ونشغل أنفسنا عن ذلك بالطعام.
صاحب حاجة تتوقف على إنجازها مصالح كثيرة، ويمكن لنا أن نعينه في قضائها لمعرفتنا بوجيه أو مسؤول، فنشغله ونشغل أنفسنا عنها بالطعام.
في هذه الأمثلة وما يشابهها كثير، يصبح الإصرار على الإكرام بالطعام، أمراً مفضولاً أو خطأ أو عبئاً، وربما صار حراماً.
ويصبح هذا الإصرار بين الإخوان الذين زالت فيما بينهم الكلفة، وثبتت المودة، وتجاوزوا مرحلة الاختبار، فعرفوا بأنهم أهل كرم وأريحية، خطأ أفدح وأفدح.
وفي بعض الأحيان - وربما في أكثرها - تقوم الهدية المناسبة، واللقاء الصادق، والبشر الحقيقي، وتقديم النصح، وحل المشكلة، والحوار الفكري، وإزجاء الدعابة، مقاماً أنفع وأوقع وأجمل من الإكرام بالطعام.
وبعد: إن الإكرام بالطعام حيث ينبغي أمر حميد ومطلوب، لكن الخطأ أن نجعله قاعدة مطردة في كل الحالات. إن الكرم من حيث هو قيمة نبيلة ثابتة، لكن التعبير عنه ينبغي أن يكون متحركاً غير ثابت.
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق