تجربة دعوية
اجتمع عدد من المسلمين المغتربين في بريطانيا للتشاور في عيد أظلهم وقته، ماذا يفعلون وأين يجدون المكان المناسب الذي يتسع لهم.
وبعد المشاورة اتفقوا على إقامة صلاة العيد في إحدى الحدائق العامة، وهو أمر لا بد فيه من الاستئذان.
وقد تم الحصول على الإذن من الجهات المختصة بعد مفاوضات وتعهدات، وشروط واستفسارات كثيرة.
ومع أن المسلمين أعطوا الجهات المختصة كل ما طلبوه من الضمانات، إلا أن هذه الجهات كانت في غاية الحذر، فقد أحاطت الحديقة برجال كثيرين من المسؤولين عن الصحة، ومن المعنيين بالأمن يجوبون المكان وهم في غاية الحذر والترقب والخوف.
التقى المسلمون في الحديقة، وصلوا العيد، وفرحوا وابتهجوا، وتبادلوا التحيات والهدايا، ووزعوا المأكولات والمشروبات، وهم في نظام بديع، وأدب جم، وذوق عال، ونظافة في الباطن والظاهر على السواء، ثم انصرفوا .
لم يحدث أي نزاع، ولم يرتفع صوت بضجيج، تلاقوا كالحمائم، وانصرفوا كالطيور، وتركوا الحديقة كما كانت عليه، ليست عليها علبة فارغة، أو منديل ملقى، أو جريدة منسية.
ذهب المسلمون وقد تركوا أثراً حميداً في نفوس من كانوا يراقبونهم.
في العيد التالي حصل المسلمون على الإذن بأيسر مما كان عليه الحال في المرة الأولى، وكان من يحيط بهم أقل حذراً وتوجساً، وفي العيد الثالث ازدادت درجة اليسر، كما خفت درجة الحذر والتخوف، ثم صار الحصول على الإذن أمراً روتينياً أو يكاد .
شدني هذا الأسلوب الرفيع من العمل الدعوي، الذي يبني ولا يستفز، ويبشر ولا ينفر، ويقدم صورة رائعة من العمل الدعوي المتحضر، الذي يجمع إلى الثبات المرونة، وإلى الحفاظ على الهوية اندماجاً حميداً.
وذكرني هذا الأسلوب بما صنعه الحضارمة في مهاجرهم، لقد حملوا إسلامهم وعروبتهم معهم حيث رحلوا، وحافطوا على ثوابت هويتهم، واندمجوا مع الشعوب التي هاجروا إليها من ناحية، وتحلوا بالصبر، والأناة، والاستقامة، والأمانة، والعفة، واحترام الأنظمة والقوانين، فكانوا نموذجاً مشرفاً للقدوة الحسنة، وهو ما أدى إلى إسلام مئات الملايين بسببهم، في بلدان لم تطأها قدم فاتح مسلم قط.
ليت المسلمين المغتربين في العالم يستلهمون هذه التجربة الدعوية الحصيفة، وليتهم يستلهمون التجربة الحضرمية في مهاجرهم، ليتهم يستلهمون ذلك، ويضيفون إليه ويطورونه، ليحسنوا إلى دينهم، وإلى أنفسهم، وإلى الشعوب التى أحسنت استقبالهم، وهم حين يفعلون ذلك سيدركون نجاحاً هائلاً ومتزايداً باستمرار بإذن الله.
وليتهم أيضاً يحذرون كل الحذر من المدعين، والمزايدين، وأصحاب الشذوذ، والمتاجرين بالخلاف، والآخذين بالأعسر، ومثيري الفتن، والشاتمين للبلدان التي أكرمت مثواهم، وأهل الجدل واللغو والتنظيرات الوهمية، والرافعين لشعارات كبرى، لا هم يقدرون عليها، ولا المرحلة تطيقها، وهي مما يستفز الضمير الديني والوطني حيث يقيمون، وهو ما ينمي الخوف والحذر والتوجس من أي عمل إسلامي مهما كان سوياً ورشيداً. كما ينبغي الحذر من الذين ينبتون فجأة على أنهم دعاة، وليس لهم تاريخ يزكيهم، ومع ذلك يقدمون وتسلط عليهم الأضواء، وتوضع لهم الأهمية، وتيسر لهم الإمكانات، وهو ما يجعلهم موضع ريبة واجبة.
ينبغي الحذر من هؤلاء أشد الحذر، لأنهم أدوات للتخريب، والتخريب يقع من الشرير، والمدسوس، والعدو، كما يقع من المخلص الأحمق، والمغامر المجنون، والقائد الجاهل.
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق