لعينيك يا رندة
عدت من المغرب إلى إسبانيا على ظهر "العبَّارة" التي تنقل الناس بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط عن طريق المضيق المائي الذي تطل عليه من جهة المغرب طنجة وسبتة، ومن جهة إسبانيا الجزيرة الخضراء وجبل طارق.
كان ذلك في عام 1402هـ - 1982م وكان الوقت صيفاً، وكان معي أسرتي وسيارة استأجرناها في رحلتنا تلك. وما إن خرجت بسيارتي وأسرتي من العبارة حتى اندفعت في السير على الطريق الجميل الذي يحاذي الساحل الإسباني الجنوبي المعروف باسم "ساحل الشمس"، ووجهتي إلى "مالقة"، وكان الوقت في أول المساء وكنت متعباً بعض الشيء لكن فيَّ فضلة من نشاط تعين على قيادة السيارة.
ظللت في الطريق حتى فاجأتني لوحة تشير إلى طريق فرعي يقود إلى مدينة رندة.
وجدتني فجأة أدخل في الطريق الفرعي وأجعل وجهتي رندة لا مالقة، لقد اتخذت قراري دون تفكير فقد فرض عليَّ نفسه فرضاً، وكان لأبي البقاء الرندي أثره في هذا الفرض حيث استيقظت فيّ قصيدته الشهيرة:
لكل شيء إذا ما تم نقصــان فلا يغر بطيب العيش إنسان
ومع أبي البقاء الرندي كان صوت محمد أسد "ليوبولد فايس" قبل إسلامه، صاحب السيرة الذاتية الرائعة "الطريق إلى الإسلام" يشجعني على المضي إلى رندة، ذلك أني زرته في بيته في طنجة فقال لي فيما قال: حين تعود إلى الأندلس احرص على زيارة رندة فإنها بلد رائع. وهكذا وجدت نفسي أحث السير إلى رندة بشوق جارف هو مزيج من الدين والأدب والتاريخ والسياحة.
بعد أن توغلت في الطريق بدأت تظهر لي المتاعب، فالطريق الذي تركته كان طريقاً واسعاً مزدوجاً سهلياً مضاء يعج بالحياة من قرى ومدن ومقاه ومطاعم ومحطات بنزين وفنادق واستراحات، أما الطريق الذي دخلته فقد كان خطاً واحداً وكان جبلياً مظلماً وعراً ضيقاً أما الحياة فيه فأخذت تقل كلما مضيت فيه حتى وجدت نفسي بعد حين أسير الوحشة والوحدة من جانب، والتعب الذي أخذ يزداد من جانب آخر.
وزاد من حدة المشكلة أن الشهر العربي كان في آخره، فاختفى القمر تماماً فإذا بالظلمة تتضاعف وتتكاثف، وازددت مع الظلمة تعباً، ومع الوحدة وحشة، وكأن الطريق أراد مشاكستي فازداد ضيقاً وتلوياً وانحداراً وصعوداً بحيث كنت ألتقط أنفاسي فرحاً بتجاوز هاوية كنت على حافتها أسير، لأجد نفسي إزاء هاوية أخرى تطل على واد سحيق، وليس للطريق سور وليست عليه إشارات ضوئية على الأرض "عيون القطط" لأضبط بها ومنها المسير.
على كل حال اعتصمت بالصبر أولاً وبالدعاء ثانياً، وعزمت على أن أبيت في أول فندق أو استراحة أمر بها، ولنترك أمر رندة إلى الصباح. وهنا جاءت المشاكسة الجديدة فقد ندرت القرى في هذا الطريق الموحش المهجور، وفي كل قرية أمر بها أبحث عن مكان للمبيت فلا أجد شاغراً. عندها لم أجد إلا متابعة السفر إلى بلد أبي البقاء، والصبر على وعثاء الطريق الذي وصفته ومغالبة التعب الذي أخذ يزداد والنعاس الذي أخذت وطأته تشتد شيئاً فشيئاً.
وأعان الله فوصلت رندة في ساعة متأخرة من الليل ففرحت بذلك رغم التعب والسهر، وقلت لنفسي: لا بد أني واجد مأوى في رندة فهي مدينة تعد كبيرة بالقياس إلى ما مررت به في الطريق إليها، وهنا أطلت علي مشاكسة جديدة إذ لم أجد في أي فندق مكاناً للنوم قط بدءاً بفندق جميل ذي خمسة نجوم، وانتهاء بأحقر فندق بنجمة واحدة أو بدون نجمة.
وتأخر الليل ولم يبق في الشوارع إلا السكارى والمتسكعون وأنا وسيارتي المستأجرة الصابرة، أدور فيها في مدينة لا أعرفها قط أبحث فيها عن مأوى بدون جدوى، وأنا وراء المقود وأم معاذ إلى جواري تراقب عيني خشية نوم لا قبل لي به قد يسبب كارثة لا قدر الله, وأولادي نائمون، وقد سكن فيّ حبي لرندة ونسيت أبا البقاء ونصيحة محمد أسد والموشح الأندلسي الشهير "جادك الغيث" الذي كنت أدندن به بين الحين والآخر، وصار أملي الأكبر أن أعثر على مكان أمين للنوم أياً كان مستواه.
العرب تقول في أمثالها: "اليأس إحدى الراحتين" وهو مثل بديع، فالمرء يرتاح إن حقق هدفه، ويرتاح أيضاً إن يئس منه وأسقطه من حسابه. وقد عزمت على الانتفاع من هذا المثل الواقعي البديع، فما دمت عاجزاً عن النوم المريح في مأوى فلأنم في السيارة. استرحت كثيراً حين وصلت إلى هذا القرار فتجولت قليلاً حتى وجدت مخفراً للشرطة فوقفت بالسيارة أمامه وأطفأت المحرك وأغلقت النوافذ، ثم قلت للعائلة التي كانت تراقب معاناة عميدها: على كل منا أن ينام حيث هو، ونمنا فعلاً في السيارة محشورين كأننا في علبة سردين، وأنا أسأل الله عز وجل أن يكون اختياري لمخفر الشرطة صواباً يحقق الأمن المطلوب مخافة أن أقع فيما تخوفت منه، فيأتيني الأذى من الشرطة أنفسهم، ويكون "حاميها حراميها" كما يقولون.
وأدركتنا رحمة الله عز وجل من جهتين: الأولى أن المكان كان آمناً بحق، والثانية أننا استطعنا النوم ونحن ستة في سيارة صغيرة. المهم أننا استطعنا أن نغفو سويعات بفضل الله عز وجل، ثم بفضل الإجهاد الذي جعلنا نغرق في نوم عميق، ثم بفضل مخفر الشرطة.
حين صحونا كنا لا نزال بحاجة إلى مزيد من النوم لكن الشمس حرمتنا ذلك ومعها الجلبة التي أخذت تنتشر مع حركة الأحياء، على كل حال استعدنا قدراً لا بأس به من النشاط، فتحركنا حتى وجدنا جدولاً صغيراً في ظاهر رندة فتوضأنا وتنشطنا وصلينا مسترشدين ببوصلة كانت معنا، وأصبنا شيئاً من الطعام، وبعد ذلك استيقظ فينا حبنا لرندة، وقصيدة أبي البقاء، ونصيحة محمد أسد، والذكريات والرغبات التي هي - كما أسلفت - خليط من الدين والأدب والتاريخ والسياحة، وبدأ الموشح الأندلسي الشهير "جادك الغيث" يداعبنا ونداعبه.
وأخذت أتجول في المدينة مستعيناً بكتابين حرصت على اصطحابهما هما "رحلة الأندلس" للدكتور حسين مؤنس و"الآثار الأندلسية الباقية في إسبانيا والبرتغال" للأستاذ محمد عبد الله عنان.
وحقاً كانت المدينة جميلة وإن تكن صغيرة، فهي ذات موقع رائع، تقع على جبل منيف، وتطل على وديان سحيقة، ويجتازها نهر "وادي لبين" ولا تزال في دورها لمسة ظاهرة من فن البناء العربي القديم من صحون وأروقة وأعمدة وزخارف وأقواس وأزقة ضيقة، وفيها لصغرها وبعدها وارتفاعها هدوء يوحي بالسكينة ويجعلك قريباً من الأشياء ويحدث بينك وبينها ألفة ومودة، ووجدت أن الشاعر الأندلسي إبراهيم الحجاري حين وصفها بأنها بلد تعمم بالسحاب وتوشح بالأنهار العذاب لم يكن مبالغاً في شيء، وأن قول ابن بطوطة عنها بعد زيارته إياها بأنها من أمنع معاقل المسلمين وأجملها وصفاً، قول صائب ودقيق.
واستطعت من خلال معرفتي بكلمات قليلة من الإسبانية، ومعرفة من سألت من الإسبان بكلمات قليلة من الإنجليزية، ومن خلال الكتابين اللذين كانا رفيقي رحلتي حيث تجولت في إسبانيا عامة والأندلس خاصة، أن أكوّن فكرة كاملة عن المدينة وأن أزور ما بقي فيها من آثار المسلمين.
مررت بأطلال القصبة الأندلسية التي تقع في طرف المدينة، وبكنيسة رندة الكبرى التي احتلت مكان جامعها القديم، والقنطرة العربية التي يمر من تحتها نهر رندة وهي لا تزال بحالة جيدة جداً، وبأطلال دارسة لحمامات عربية قديمة، وبمنارة صغيرة على الطراز المغربي تقع بين بيتين ريفيين متواضعين يبدو أنها كانت منارة مسجد صغير ذهب فيما ذهب وبقيت هي تبحث عنه، وبقصر الأمير أبي مالك، وهو أثرأندلسي مغربي جميل ما يزال في حالة جيدة وهو يعرف باسم "منزل خيجانتي - CASA Del Gigante" وهو اسم الأسرة التي تملكه، وبمنزل آخر فخم قوي يسمى "منزل مندراجون Mondragon" ويسمى أيضاً "منزل الملك العربي Casa Del Rey Moro" يقع في طرف المدينة، ووراءه سلم حجري سحيق وطويل يتكون من 365 درجة، وينتهي من أسفله بنهر صغير، وبمنزل آخر يسمى "منزل سالبتيرا" وهو قريب من المنزل السابق وعلى مقربة من النهر، وأخيراً بباب المقابر "Puerta de Almocobar" على طرف المدينة الجنوبي الشرقي، حيث كان السابقون من أهل رندة يقيمون بانتظار اللاحقين، ليتجاوروا معاً حتى النشور.
* * *
بعد هذا التجوال غادرت رندة سالكاً الطريق الذي قطعته في الليلة السابقة، كان الجو بديعاً والشمس ساطعة وكنت نشيطاً مسروراً، لكن المفاجأة أني وجدت الطريق أخطر مما كنت أتوقع، لقد سقط النور عليه فكشف مخاطره، طريق ضيق وعر ملتو يطل على مهاوٍ ووديان سحيقة جداً ولا توجد - حيث تدعو الحاجة - حواجز تفصل بين طرف الطريق وحافة الوادي التي تسقط كأنها جدار عمودي، إنني أقطعه الآن في النهار وفي النشاط معاً ومع ذلك فأنا حذر خائف، إذن كيف كان الحال ليلاً؟ على كل حال إنه ستر الله تعالى وعونه.
ولما وصلت الطريق الساحلي العريض المزدوج العاج بالحياة حمدت الله عز وجل ومضيت وأنا أدعو لأبي البقاء ولمحمد أسد، وأضحك على نفسي لقيامي برحلة متعبة غير مدروسة، ثم أضحك سعيداً وأنا أقول لرندة "لعينيك يا رندة" ولما كان حديث العيون حديثاً محبباً إلى النفس رأيتني أقفز إلى أبي الطيب المتنبي شاعر العربية الأكبر وأنا أقول لرندة ولغيرها:
لعينـــيك ما يلقى الفـؤاد وما لقي وللحب ما لم يبـــق منه وما بقي
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ولكن من يبصر عيونـــك يعشق
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق