أندلسيات حسناوات جداً
"الأندلس" في الاصطلاح الإداري الإسباني، هي مجموعة المحافظات الجنوبية في إسبانيا، أما في الاصطلاح الإسلامي فإنها تطلق على كل ما وصل إليه سلطان المسلمين من شبه جزيرة إيبريا.
وللأندلس وقع عميق في وجدان كل عربي ومسلم، يثير فيه مشاعر متنوعة، وعبراً كثيرة، مردها إلى الإيحاء الموسيقي الجميل لهذا الاسم، ولما اقترن به من تاريخ حافل بالعجائب والغرائب والمتناقضات، عبر ثمانية قرون، وقرن آخر عاشته بقايا المسلمين بعد سقوط غرناطة، بين خضوع واستسلام، وثورة وتمرد، حتى تم طردها خارج إسبانيا في مأساة مروعة.
لقد سكنت الأندلس في الوجدان العربي والمسلم كما لم تسكنه منطقة أخرى في العالم باستثناء الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى، ذلك أن هذه البلاد النائية ارتبطت في هذا الوجدان بالفتح الإسلامي في عنفوانه، وبالحضارة الهادية البانية في ازدهارها، وبالفداء والبطولة والتضحية من رجال كرام ونسوة حرائر، وبالخيانة والترف والعجز والأثرة من قاعدين وقواعد، ثم بالسقوط الذي لا مثيل له في تاريخ الدول والحضارات، حيث تهاوت دولة المسلمين بعد قرون طويلة ملأى بالأمجاد والمخازي، والتهم الإسبان هذه الدولة التي كانت صفحة مشرقة في تاريخ الحضارة عامة، وفي الحضارة الأوربية خاصة، قطعة قطعة، كان آخرها غرناطة التي سلّمها آخر ملوك بني الأحمر أبو عبد الله الصغير للمنتصرين الإسبانيين فرديناند وإيزابيلا في يوم حزين بارد هو الثاني من يناير "897 هـ - 1492م". ثم خرج من حمرائها الجميلة المشرفة على المدينة المستسلمة، حتى إذا بلغ تلة صغيرة لا تزال تعرف حتى اليوم باسم "حسرة العربي" التفت وراءه ونظر إلى غرناطة المكلومة وحمرائها المحزونة، فبكى، فقالت له أمه الحرة العربية "عائشة": ابك مثل النساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال، وقد وقفت على هذا المكان متذكراً معتبراً، وكتبت قصيدة سميتها باسمه "حسرة العربي".
والنهاية الحزينة التي انتهت إليها دولة المسلمين في الأندلس زادت من تعلق العرب والمسلمين بها، ذلك أن الملكين الكاثوليكيين المنتصرين فرديناند وإيزابيلا نقضا كل العهود التي أبرماها مع أبي عبد الله الصغير، وفعلا بالمسلمين الأهوال، وتبعهما على الخط نفسه أغلب الملوك والأمراء والأحبار الإسبان، ولاحقوا المسلمين أشد الملاحقة في دينهم وأزيائهم وعاداتهم وأفراحهم وأحزانهم وأملاكهم، حتى اضطر المسلمون إلى الثورة أكثر من مرة، فحاربتهم الدولة حرباً ضارية، وأنشأت ديوان التحقيق الذي عرف باسم "محاكم التفتيش" ليتعقبهم ويعاقبهم، وهو من الوحشية والهمجية والقسوة بحيث يعد وصمة عار في تاريخ البشرية كلها، وقد أدى الديوان مهمته الذميمة على أشنع وجه، ولم ينج من فظاعته حتى المسلمون الذين تنصروا حقيقة أو خوفاً. ثم أجمع أهل القرار في إسبانيا على طرد البقية الباقية من هؤلاء المساكين، فرحلوا إلى أماكن مختلفة من العالم الإسلامي، واتجه أكثرهم إلى المغرب، ولا يزال بعضهم يتوارث مفاتيح بيوت أجدادهم التي تركوها عند ترحيلهم، بل إن بعض هؤلاء المهاجرين، شيدوا مدنهم وبيوتهم على طراز ما عاشوا عليه في الأندلس، تجد ذلك مثلاً في تطوان وفي شفشاون في المغرب، وفي سيدي بو سعيد في تونس.
* * *
في قصيدة شوقي السينية الشهيرة ، التي يعارض فيها سينية البحتري الأشهر منها، بيت عجيب، بيت بقصيدة، بل بقصائد، يصور فيه كيف خرج المسلمون من إسبانيا مطرودين تحملهم السفن، وهم في أسر الذل والضعف والهوان، على النقيض من أجدادهم الذين جاؤوا إلى إسبانيا فاتحين يركبون السفن وهم في جلال العز والفخر والغلبة. الأجداد الفاتحون كانوا كأنهم الملوك على العروش، والأحفاد المطرودون كانوا كأنهم الموتى في النعوش:
ركبوا بالبحار نعشـــاً وكانت تحت آبائهم هي العرش أمس
لله در الشاعر العبقري شوقي، الذي استطاع في بيت واحد أن يصور القرون الثمانية بل التسعة، التي امتدت فيها حياة المسلمين في إسبانيا بما لها وما عليها.
وهناك بيت آخر لشوقي في السينية نفسها، لا يصل إلى قامة البيت السابق، لكنه يقاربها. وهو أعجوبة من أعاجيب شوقي، وما أكثر أعاجيبه، إنه في هذا البيت يصور كيف كانت قرطبة قبل المسلمين قرية منسية، وكيف صارت بحضارتهم المشرّفة المجيدة، بلدة تمسك أطراف الأرض حتى لا تميد، إنه قوله عنها:
قريــة لا تعد في الأرض كانت تمسك الأرض أن تميد وترسي
وليته اختار كلمة "صارت" بدلاً من كلمة "كانت" ففي ذلك ما يجعل المعنى أغنى والإيحاء أوسع.
* * *
خرجت الأندلس من أيدي المسلمين بعد ثمانية قرون هي المدى بين انتصار طارق بن زياد وموسى بن نصير وبين سقوط غرناطة، يضاف إليه قرن أو أكثر هو المدى بين سقوط غرناطة والطرد النهائي، وشهد التاريخ أن المسلمين أيام غلبتهم كانوا بناة حضارة، وأهل علم، ورادة ثقافة، وأنهم كانوا أهل عدل وشرف وحفاظ على العهود وتسامح مع المخالفين، وأن وجودهم في الأندلس نقلها نقلة رائعة إلى الأمام في كل الميادين، هكذا كانوا أيام غلبتهم، أما أيام ظفر عدوهم بهم فقد كانت الصورة مضادة تماماً، لقد غدر عدوهم بهم ونقض العهد وصادر الدين واللغة والأرض والعرض والزي والعادة، فكان التناقض بين الصورتين تناقضاً حاداً، مثل المسلمون فيه أخلاق الفرسان، ومثل غالبوهم فيه أخلاق القراصنة.
وأياً كان فقد زادت النهاية المأساوية للإسلام وحضارته في الأندلس من حب العرب والمسلمين لها، وامضِ حيث شئت في بلادهم فسوف تجد أسماء مدنها الشهيرة وعلمائها وشعرائها وأبطالها في كل مكان، تطلق على المدارس والمقاهي والمطاعم والشوارع والفنادق والمحلات والمكتبات، وسوف تجد الموشحات الأندلسية الجميلة تشنف الآذان في كل مكان، وبخاصة موشحها الشهير الذي أبدعه واحد من أذكى أبنائها هو لسان الدين بن الخطيب، والذي نظمت على غراره موشحات كثيرة تصلح أن تكون موضوعاً طريفاً لرسالة ماجستير أو دكتوراه، وهو الذي يقول مطلعه:
جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصــــل بالأندلس
وأشهر من عارض هذا الموشح في عصرنا الحديث هو شوقي في موشحه الجميل الذي سماه "صقر قريش" ومطلعه:
مَنْ لِنِضْـــوٍ يتـنــــــزَّى ألمـا بـــرّح الشــوق به في الغلس
حنّ للبـــان ونـــــاجى العلما أين شرق الأرض من أندلس
وإذن لا غرابة أن تظل الأندلس ساكنة في الوجدان العربي والمسلم، مرتبطة بنوازع متآلفة ومتخالفة من الفخر والاعتزاز، والحسرة والأسى، والإشادة واللوم، والجمال والترف، والبطولة والعجز، والإفراط والتفريط، والتضحية والخيانة، وما شئت من أمثال ذلك.
* * *
وأنا أحد العرب المسلمين الذين سكنت فيهم الأندلس منذ قرأت عنها أيام دراستي الجامعية وقبلها وبعدها، سكنت فيّ إلى درجة العشق، ثم ازداد هذا العشق حين شاء الله تعالى أن أزور إسبانيا مرات كثيرة أولاها عام 1399هـ - 1979م وآخرها عام 1416 هـ - 1996م، وفيّ كل دواعي العشق والشوق، ومعي عناوين وخرائط ورفقة تدلني وتشرح لي، ومعي كتابان يلازماني دائماً هما "رحلة الأندلس" لحسين مؤنس و"الآثار الأندلسية الباقية في إسبانيا والبرتغال" لمحمد عبد الله عنان، أقرأ فيهما عن المواقع التي أزورها قبل الزيارة وأثناءها، وأتجول وأتامل وأتذكر وأتمنى وأنشد، في السهل والوعر، والشجر والطلل، والقصور والمتاحف، والحدائق والجبال، وبقايا القلاع والأسوار، والمآذن التي لا تزال باقية، والأزقة القديمة في الأحياء القديمة من غرناطة وقرطبة وإشبيلية وطليطلة، وهي أزقة تذكرك بأمثالها في دمشق والقاهرة وفاس وتطوان وتونس وإستانبول يتم تجديدها وتجديد بيوتها التي تقع فيها وفق ما كانت عليه، لأهداف تتعلق بحفظ التراث وكسب السياح.
وكنت أيضاً أبحث عن مواقع المعارك وأقرأ عنها حيث دارت وأتخيل وأتصور، وذهبت مرة إلى قرية "لوشا" وهي من أعمال غرناطة لا لشيء إلا لأنها أنجبت لسان الدين بن الخطيب، وأنا أعيد المرة بعد المرة موشحه الشهير "جادك الغيث" وأتذكر ذكاءه وألمعيته، وأمجاده، ونهايته المروعة، وأتخيل أنه مشى في هذا المكان وذاك من بلدته أيام طفولته وصباه.
ولطول صحبتي لأبي البقاء الرندي، ومعايشتي لقصيدته الشهيرة التي رثى فيها الأندلس، رثاء حزيناً، والتي مطلعها:
لكل شيء إذا ما تم نقصــان فلا يغر بطيب العيش إنسان
خيّل إلي أني تلقيت دعوة منه لزيارة مدينته "رندة" فذهبت إليها في رحلة شاقة متعبة، لكنها طريفة وشائقة، وقد كتبت عنها مقالاً ضافياً اسمه "لعينيك يارندة".
وذهبت أيضاً إلى أقصى الشمال الإسباني، مسوقاً بداعي العبرة التاريخية، باحثاً عن المغارة التي لجأ إليها نفر من الإسبان الشجعان في بداية الفتح الإسلامي لأنهم أبوا الخضوع له، فأهملهم المسلمون، فكانوا النواة الأولى للمقاومة التي انطلقت منها جموع الإسبان في كر وفر طويلين حتى استطاعت أن تظفر بالمسلمين جميعاً، ثم تطرد بقاياهم من إسبانيا نهائياً وقد كتبت عن المغارة وقصتها، مقالاً ضافياً اسمه "صخور وعزائم".
وذهبت مرة أبحث عن القرية التي كان يعيش فيها أمير الشعراء أحمد شوقي أيام منفاه، ووصلت إليها وتجولت فيها، وهي قرية جبلية وادعة جميلة، قريبة من برشلونة اسمها "ﭬﻠﭭﺪﻳﺮا"، كنت قد قرأت عنها في كتاب الدكتور شوقي ضيف الشهير "شوقي شاعر العصر الحديث".
أما الأمير العظيم، الصبور، الجسور، المرزأ من ناحية والمظفر من أخرى، عبد الرحمن بن معاوية، الذي عرف في التاريخ باسم "عبد الرحمن الداخل" والذي لقبه خصمه العظيم أيضاً، الخليفة أبو جعفر المنصور "صقر قريش" فقد وصلتُ إلى قرية "المنكّب" التي تحمل اسم "ALMUNECAR"، والتي تقع على الساحل الجنوبي لإسبانيا مقابل المغرب، وتذكرت كيف وصلها بعد رحلة شاقة ملأى بالمخاطر عام 138هـ، ليبدأ منها ملحمة سيطرته على إسبانيا، فأعاد لبني أمية شيئاً من مجدهم في الغرب بعد خسارتهم إياه في الشرق، ورأيت كيف نصب له الإسبان تمثالاً ضخماً ونقشوا عليه أبياته مترجمة إلى اللغة الإسبانية، وتذكرت قوله:
أيهــــا الراكب الميــــــمم أرضي
أَقْـــرِ من بعضيَ الســـلام لبعـض
إنَّ جسمي كمـــا تــراه بـــــأرض
وفــــؤادي ومالكيــــه بــــــأرض
قـــدّر البيــــن بيننــــا فافترقنـــــا
وطوى البين عن جفوني غمضي
قـــد قضى الله بالفــــراق علينــــا
فعسى باجتـــماعنا ســوف يقضي
وكما تذكرت هذا الأمير المغامر الداهية في "المنكب" تذكرته في مسجد قرطبة الذي كان أول من بدأ البناء فيه، ثم تتابع أمراء البيت الأموي على توسعته وتحسينه حتى صار من أخلد الآثار الإسلامية في العالم، وأجملها، وأشهرها، وأمتنها، وأقدرها على البقاء.
وتذكرته أيضاً حين مرّ في "منية الرُصافة" وهي من ضواحي قرطبة، بنخلة مفردة، فهاجت أحزانه وتذكر بها بلاده الأولى وهي أرض النخل، فقال:
بـدت لنــــا وسط الرصــــافة نخــــلة
تنـــاءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقـــلت شبيـــهي في التغرب والنــوى
وطول الـتنــــائي عن بنيّ وعن أهـلي
نشـــأت بأرض أنت فيـــها غريبـــــة
فمثـــلك في الإقصاء والمنتـــأى مثلي
سقتك غوادي المزن في صوبها الذي
يســـحّ ويستمري الســـــماكين بالوبل
وتذكرت أنه مات، فدفن في قرطبة، فأضاعت الفتن التي اشتعلت قبره فلم يعرف، لكن خلوده في الضمائر والأسفار والألسنة، أغناه عن قبره الضائع، وشتان بين قبر من تراب وقبر من إعجاب، وقد وفق شوقي غاية التوفيق حين التقط هذا المعنى النادر فضمّنه في موشحه "صقر قريش" فقال مخاطباً عبد الرحمن الداخل:
قصـــرك المنيةُ من قرطبــةِ فيــه واروك ولله المصيـــــرْ
صدف خُـــطّ على جوهـــرةِ بيـــد أن الدهر نباش بصيــرْ
لم يـــدع ظلاً لقصر المنيـــةِ وكــذا عمر الأمانيّ قصيـــرْ
كنت صقـــراً قرشيــــاً علما ما على الصقر إذا لم يرمسِ
إن تســــلْ أين قبور العظـما فعــلى الأفواه أو في الأنفـس
يبدو للمرء أن عبد الرحمن الداخل كان مجموعة عظماء في شخص واحد، يشهد لذلك أنه حكم خمسة وثلاثين عاماً، كان فيها راجح العلم، ثاقب الفهم، لا يخلد إلى الراحة، شجاعاً مقداماً مظفراً، عظيم الهمة حتى روى التاريخ عنه أن نفسه حدثته أن يخرج إلى بلاد الشام ليستعيد الحكم الأموي من بني العباس لكن الشواغل صرفته عن ذلك.
وفي موقع معركة "العقاب" التي جرت بين الموحّدين والإسبان عام "609هـ - 1212م" وقفت حزيناً أتذكر الهزيمة الفادحة التي مني بها الموحدون، والتي كان ظفر الإسبان فيها قوة دافعة لهم إلى المزيد من مطاردة المسلمين ومحاصرتهم حتى أخرجوهم من إسبانيا كلها، وفي مدينة "برغش" في شمال إسبانيا وهي بالإسبانية "BURGOS" يوجد علم الجيش الموحدي المهزوم، معروضاً في أحد المتاحف، وهي إشارة تدل على اعتزاز الإسبان بظفرهم يومذاك.
وقد استشعر ابن الدباغ الإشبيلي الخسارة الفادحة، التي أصابت المسلمين في معركة "العقاب" ورأى فيها نذيراً يومئ إلى أن المسلمين سوف يخسرون إسبانيا كلها، فقال:
وقـــــــائلة أراك تطيل فكراً كأنك قد وقفت على الحساب
فقــــلت لها أفكر في عقــاب غدا سببـــاً لمعركة العقــاب
فما في أرض أندلس مقــــام وقد دخل البلا من كل بـــاب
وهذا الإحساس الحاد بالخطر، دفع شاعراً آخر هو ابن العسّال إلى أن يقول هذه الأبيات الحزينة التي تلتقي في تشاؤمها مع أبيات ابن الدباغ:
يــا أهل أندلس حثــــوا مطيــــكم فما المقــــام بها إلا من الغـلـــــط
الثــوب ينســل من أطرافه وأرى ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط
ونحــن بين عدو لا يفــــــــارقنــا كيف الحياة مع الحيّـات في سفط
هذا، وتروى هذه الأبيات منسوبة إلى المؤرخ الأندلسي ابن حيان مع اختلاف يسير.
* * *
ويبدو لي أني لو توسعت في الحديث عن ذكرياتي في إسبانيا، وتداعياتها وامتداداتها وما كتبته عنها وفيها، وما بقي في ذاكرتي مما قرأته عنها لطال الحديث وطال، وربما تحول إلى كتاب كامل.
ولا غرابة، ففي مسجد قرطبة اعتراني شعور عميق بالحزن، المقترن بالإعجاب والإكبار فوجدت نفسي أتلو، وأبكي، ثم وجدت فمي يصدح بالأذان وأنا قرب المحراب البديع، الذي لا يزال كما تركه المسلمون بالأمس، ثم أتخطى السلسلة التي تحجزه عن الزوار وأصلي ركعتين فيه، وقد دونت ذلك في مقال طريف سميته "المسجد المحزون" ويومها غلبني الوجد، فقلت: سوف أؤذن في منارة المسجد كما أذنت في محرابه، فصعدت المنارة التي صارت ملأى بالنواقيس، فأذنت لإبهاج المنارة وإغاظة النواقيس.
وفي أطراف قرطبة زرت ضاحية الزهراء التي بناها الصقر القرشي، والتي كانت يومها من أعاجيب البناء والهندسة في الدنيا كلها، وتجولت في أطلالها، وخيّل إلي وأنا بين هذه الأطلال أني أسمع ابن زيدون يقول لولادة:
إني ذكــرتك بالزهــــراء مشتـــاقـا
والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا
ولما كان الشجا يبعث الشجا كما يقول الشاعر العربي القديم، فقد وجدت نفسي في الزهراء أسترجع ما بقي في ذاكرتي من قصيدة شوقي الرائعة، التي قالها في دمشق إبان زيارته لها، ومطلعها:
قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا
مشت على الرسم أحداث وأزمان
ووجدت ذاكرتي وأحزاني تتوقف بإلحاح، أمام بيته الرائع الحزين فيها، وهو قوله الذي يشير فيه إلى أن مجد بني أمية في دمشق ذكّره بمجدهم الآخر في الأندلس:
بـالأمس قمت على الزهراء أندبهم واليوم دمعي على الفيحاء هتـــــان
أما إشبيلية فقد استرجعت فيها كل ما قرأته عن فارسها المعتمد بن عباد، وتذكرت أشعاره، وبطره، وترفه، وشجاعته يوم قاتل مع يوسف بن تاشفين في معركة "الزلاقة" في بسالة نادرة، ثم أسره ونفيه إلى أغمات في المغرب، وحين وقفت على نهر "الوادي الكبير" الذي يخترق إشبيلية، تذكرت كيف أسعفت بديهة فتاة كانت تغسل الملابس في النهر، بنصف بيت من الشعر، انتقلت فيه نقلة عجيبة، صارت به زوجة للمعتمد وملكة على إشبيلية، ذلك أن المعتمد كان مع صديقه وشاعره ابن عمار، على الشاطئ، فهبت الريح عكس مجرى النهر، فارتجل المعتمد هذا الشطر: "صنع الريح من الماء زرد" وطلب من صديقه أن يأتي بالشطر الثاني فلم يوفق، فقالت الفتاة: "أي درع لقتال لو جمد" فنالت بنصف البيت هذا ما نالت، وشاركت المعتمد أمجاده أولاً، ونهايته الحزينة ثانياً، ودفنت معه ومع ابنته في أغمات بالمغرب، ولا تزال قبورهم معروفة يزورها الناسُ من كل مكان، وحين زرتها مررت بغرفة ملحقة بالمدفن، فيها سجل طويل مليء بما يدونه الزوار، وهو كثير جداً، منوع جداً، يدل على حب العرب للتاريخ، وحزنهم على النهاية الحزينة للمعتمد وزوجته الرميكية.
وقد تذكرت - فيما تذكرت - أن ملوك الطوائف حين استشعروا الخطر المحدق بهم، عقب سقوط طليطلة في يد ألفونسو السادس عام 478هـ - 1085م، اتفقوا على استدعاء البطل المرابطي الشجاع الزاهد يوسف بن تاشفين من المغرب لنجدتهم، ولكنّ أحدهم تخوف من ابن تاشفين لأنه قد يعزلهم بسبب اختلافهم وتفريطهم، ويضم إماراتهم إلى دولته المرابطية، فقال له المعتمد "لأن أكون راعي جمال عند ابن تاشفين خير من أن أكون راعي خنازير عند ألفونسو" وهي كلمة بديعة ملأى بالرجولة والإيمان والنبل، وإيثار العام على الخاص، والآجل على العاجل.
وفي إشبيلية التي لم يبق من مسجدها الشهير شيء، إلا المنارة الموحدية التي تسمى في إسبانيا اليوم >الخيرالدا< وهي شاهقة جداً وفي حالة ممتازة جداً، تذكرت ما رواه التاريخ أن المؤذن ربما كان يصعد إليها على حصان، فقد جعل المهندس الذي بناها طريق الصعود يعتمد على الميل الخفيف لا على الدرج المعتاد في المآذن، وقد صعدت المنارة، ورأيت من فوقها مدينة إشبيلية باتساعها وجمالها وحدائقها، ووجدت أن عليّ أن أسمع المنارة الأذان فأذنت.
وفي مدينة "سالم" الواقعة على الطريق الذي يربط بين مدريد وسرقسطة، وقفت أمام قوس حجري، في منطقة متهدمة مهجورة، يغلب عليها الخراب، يروى أنها كانت المدفن الذي حظي بجسد المنصور بن أبي عامر، وهو من أهم الشخصيات الأندلسية الفاعلة الجبارة، والمثيرة للجدل بين قادح ومادح، وهو كما يقول عنه الدكتور حسين مؤنس: "ثاني اثنين دانت لهما هذه الجزيرة من أول التاريخ حتى مطلع العصر الحديث أولهما عبد الرحمن الناصر".
وإذا كان المرء يغلب عليه الجلال والوقار والحزن في مسجد قرطبة، فإنه في حمراء غرناطة يغلب عليه الأنس والفرح والطلاقة، خاصة في حدائقها الرائعة الأنيقة التي تعرف باسم "جنة العريف"، ومن أطرف ذكرياتي فيها أن الصلاة أدركتني خلال تجوالي فيها، فانتحيت ركناً بعيداً فصليت، ورآني أطفال كانوا في رحلة طلابية مدرسية، فأخذوا ينظرون إلي ويعجبون ويضحكون. وكأنهم يتساءلون: "ماذا يفعل هذا الكهل العربي الأسمر" وقد سجلت ذلك في مقال طريف سميته "صلاة في الحمراء" وهناك صلاة أخرى لا يزال أثرها فيّ حياً حتى الآن، ذلك أني رأيت مجموعة من الشبان المغاربة، يتجولون في حدائق جنة العريف، بملابسهم المغربية الجميلة المميزة، أدركتهم الصلاة، فأذّن أحدهم، ثم أدوا الصلاة جماعة في مشهد بديع مؤثر، كتبت عنه قصيدة مطولة سميتها "أشواق أندلسية"، وفي جبال "البشرات" تذكرت الثورة التي قام بها المسلمون في شعابها، بعد أن اضطهدهم الإسبان وتنكروا لعهود الصلح ومواثيق التسليم، وفي جبل طارق تذكرت القائد العبقري طارق بن زياد الذي يحمل الجبل اسمه، وتذكرت خطبته الشهيرة التي نحفظها جميعاً، وخيّل إلي أن هذا الجبل يربض على مدخل إسبانيا الجنوبي وكأنه أسد يحرسها، وفي متحف مدريد الحربي رأيت وثيقة التسليم التي وقعها أبو عبد الله الصغير، وسيفاً هنا، وعباءة هناك، ويماثل ذلك أو يقاربه ما غمر نفسي من أفراح وأحزان في سرقسطة، وطليطلة، وبلنسية، ومرسية، وشاطبة، وطريف، وبنبلونة، وسنتياغو، وسهيل، وجيان.
* * *
هل يستحق المسلمون الأندلسيون اللوم؟ نعم إنهم يستحقون لأنهم وقعوا، أو وقع كثير منهم في الترف، والترف حمض أكَّال يأكل الرجولة والجدية والفضائل، ولأنهم وقعوا في الخلاف، والخلاف بوابة واسعة للشرور بل والفناء.
لكن هذا اللوم ينبغي ألا يحملنا على نسيان عدة حقائق مهمة جداً:
الأولى: أن المسلمين في الأندلس قاتلوا طويلاً، وضحوا كثيراً، وجدوا وصابروا، ويكفيهم شرفاً أن الأندلس التي فتحوها في سنتين فقط لم يستطع الإسبان أن يخرجوهم منها إلا في ثمانية قرون، وهي مفارقة مهمة ينبغي للدارس المنصف أن يشهد بها ويشيد بدلالتها المشرفة.
الثانية: أنّ أوربا كلها - بدرجات متفاوتة - وقفت خلف الإسبان في حروبهم ضد المسلمين، بالمال والعتاد والمقاتلين، ذلك أنها رأت في الأندلس المسلمة جسماً غريباً نشازاً مختلفاً عن بقية ديارها المسيحية، لابد أن يزال، وقد كان. لقد كانت حرب الإسبان ومن ورائهم أوربا ضد المسلمين حرباً صليبية بكل معنى الكلمة، بدأت قبل الحرب الصليبية التي غزت مشرقنا العربي واستمرت بعدها، بل كانت أشرس وأفتك.
الثالثة: أن المسلمين عمروا إسبانيا، ونقلوها نقلة واسعة إلى الأحسن في كل شيء وأنهم جعلوا من عاصمتهم "قرطبة" أيام المجد الأموي أعظم مدينة في أوربا على الإطلاق في السياسة، والعسكرية، والهندسة، والإدارة، والغنى، والعلم، ويشهد التاريخ أن اثنين من بابوات روما درسا في قرطبة، وأن أحد ملوك بريطانيا أرسل عدداً من بناته الأميرات ليتعلمن فيها، وإذن فإن المسلمين الأندلسيين لهم وعليهم، ولعل الذي لهم أكبر بكثير من الذي عليهم. وفي إسبانيا اليوم نفر من العلماء والأدباء المنصفين يشيدون بحضارة المسلمين في الأندلس وينصفونها غاية الإنصاف، ويعدون طرد المسلمين المورسكيين ظلماً كبيراً وجناية فادحة، ويعدون محاكم التفتيش وصمة عار، ووحشية بالغة.
الرابعة: أن غرناطة التي كانت آخر معاقل الأندلس سقوطاً، سقطت والدولة العثمانية في أوج قوتها، وكانت أوربا تخاف منها خوفاً شديداً، ولابد أن مسلمي غرناطة استنجدوا بها، وكانت الدولة العثمانية مؤهلة جداً للنجدة المأمولة، لأنها في ذروة القوة، ولأن خلفاء بني عثمان يومذاك كانوا يجمعون بين الشجاعة وبين الولاء التام للإسلام، إن هذا الأمر لغز غير مفهوم من ألغاز التاريخ ليت أحد الدارسين يجلّيه.
الخامسة: بذل المسلمون الأندلسيون الذين ظلوا في إسبانيا، بعد سقوط آخر معاقلهم بيد الإسبان وهي غرناطة جهوداً كبيرة للاحتفاظ بهويتهم الدينية، واللغوية، والاجتماعية، والثقافية، وقد توهموا في البداية أن معاهدة التسليم التي وقعها عنهم أبو عبد الله الصغير، وعن الإسبان الملكان الكاثوليكيان فرديناند وإيزابيلا، سوف تمكنهم من الاحتفاظ بهذه الهوية، وكانت جديرة أن تحقق لهم ذلك لو طبقت لأنها في الجملة معاهدة جيدة ومنصفة، لكن الملكين الظافرين، ومن ورائهما أحبار أشداء متحمسون، نقضوا هذه المعاهدة جملة وتفصيلاً، وفعلوا بالمسلمين الأهوال، وهو ما دفعهم إلى مزيد من التمسك بهويتهم، بل دفعهم إلى الثورة في جبال البشرات، ولكن دون جدوى، فقد هزموا هزيمة منكرة، فلم يجدوا بداً من الاستسلام، لكن الحكومة الإسبانية لم تأمن حتى لمن تنصر منهم حقيقة أو خوفاً، فلجأت إلى طردهم من إسبانيا طرداً جماعياً نهائياً، ولم تبق منهم إلا أعداد قليلة جداً في أمكنة متفرقة ذابت مع الزمن.
ومن أطرف ما فعله المسلمون في تلك الفترة العصيبة أنهم ألفوا كتباً باللغة العربية، لكنها تكتب بالحروف اللاتينية، سموها "الألخميادو" أي "الأعجمية" في محاولة لإخفاء ما يكتبون عن عيون القساوسة ورقابة الأمن، وفي هذه الكتب أحكام شرعية، وآداب أخلاقية، ووصايا ونصائح، يراد منها تذكير الناس عامة والناشئة خاصة بدينهم ليتمسكوا به سراً ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
* * *
لقد كان هذا التطواف الذي استطعت أن أسرد بعضه، مزاجاً جميلاً متناغماً من الفرح والحزن، والأدب والتاريخ، والحقيقة والخيال، والأحلام والآمال، ينتظمه إطار أخاذ سميته ذات مرة "العشق الأندلسي".
وكان يواكب هذا العشق الذي يسكنني، فرح غامر يذكيه فيزداد، سببه أن لي معرفة بنخبة من العرب الذين هاجروا إلى إسبانيا واستوطنوها فكانوا لي المضيف والصديق والدليل، ولا أزال أتذكر أحدهم وهو يقول لي: لقد أمللتنا بكثرة أسئلتك عن المواقع ورغبتك أن نأخذك إليها، وأتذكر ثانياً وهو يقول لي: سوف أسرق منك هذين الكتابين اللذين تحملهما دائماً حتى تكف عن السؤال والتجوال، وأتذكر ثالثاً وهو يقول لي: إنك الآن قد رأيت مما يشغل أمثالنا أكثر بكثير مما رأيناه نحن المهاجرين المستوطنين.
وثمة فرح آخر كان يغمرني، وهو فرح أنقى وأصفى وأبقى، إنه فرحي بالتعرف إلى البدايات الأولى لانتشار الإسلام مجدداً في إسبانيا، حيث كنت ألقى عدداً من المهتدين الجدد في مسجد أو بيت أو رحلة أو مخيم، ذلك أن إسبانيا أصدرت قانون حرية الأديان، وبموجبه صار من حق الإسباني وللمرة الأولى منذ سقوط غرناطة أن يعتنق غير الكاثوليكية. وفرحة المسلم حين يلقى مهتدياً جديداً ويحاوره ويعاونه فرحة ذات أفق روحي ونفسي وفكري بديع.
* * *
ولأولادي الذين كانوا صغاراً يومذاك، والذين رافقوني في معظم هذا التطواف الجميل، ذكريات حلوة لما فيها من طفولة وبراءة وعفوية، كانت لكل منهم مهمة حين نمتطي السيارة، أحدهم يتأكد أن عددنا كامل، والثاني يتأكد أن الأبواب مقفلة، والثالث يتأكد أن معنا زادنا ومتاعنا، والرابع يذكرنا بأن نبدأ رحلتنا بدعاء السفر طلباً لحفظ الله ورعايته.
وكانت أمامة لأنها الأكبر بينهم - ترى لنفسها موقعاً قيادياً، وكانت تجادلني كثيراً حتى ترضى عن مكان المبيت، نظافة وجمالاً ومستوى، وكنت أداريها أكثر من سواها، وقد أخبرتني فيما بعد، أنها أرادت أن تسخر من زميلة لها في المدرسة، كانت تدعي أنها زارت قصر الحمراء، وأعجبت ببهو السباع خاصة، فصارت تحدثها عن جمال هذه السباع, ودقة صناعتها، وقدرة النحَّات الذي وضع فوق كل سبعٍ تمثالاً لخروف، وفوق كل خروف تمثالاً لدجاجة، وفوق كل دجاجة تمثالاً لطائرٍ، والزميلة المسكينة تؤكد أنها رأت ذلك كله وأعجبت به، وحين انكشفت الحيلة، شكتها الزميلة إلى مديرة المدرسة التي أنهت الموضوع بهدوء وهي تكتم ضحكتها.
أما معاذ فقد خطر له أن نسترد إسبانيا لأنها بهرته جداً، لكثرة ما تجول فيها، وكثرة ما حدثته عنها، فلما سألته عن كيفية الاسترداد كان جوابه جاهزاً، وهو: الغربيون ومنهم الإسبان مقلّون في الإنجاب، خلافاً لنا نحن المسلمين الذين نحب الإكثار منه، ليقيننا أن الأبناء قوة، وأن الله تعالى هو الرازق، وأن الأبناء الصالحين مما ينفع الإنسان في حياته وبعد موته، لذلك نهاجر إلى إسبانيا بالتدريج، ونتزوج مبكرين، وننجب الكثيرين، ومع الزمان نزداد شيئاً فشيئاً حتى نصبح الأكثرية، وتعود إسبانيا لنا.
أما أحمد فقد أعجبته منطقة جبلية جميلة في شمال إسبانيا توقفنا فيها بعض الوقت، فلما دعوته لركوب السيارة مع إخوته حتى نكمل التطواف أبى، حاولت إقناعه فازداد عناداً، فأجبرته على الركوب وهو يبكي، وقد ظللت دهراً طويلاً أداعبه وأقول له: لو ظللت هناك لصرت إسبانياً، وربما انضممت إلى عصابات الباسك المتمردة على الدولة لأنها تريد الانفصال عنها.
أما محمد فكان يحرص على أن يأخذ معه من الرياض، طاقية فيها ثقوب، مما يلبسه الناس على رؤوسهم، حتى إذا تجول في حدائق الحمراء في غرناطة، وقف عند بركة >البرطل< الملأى بالسمك الملون، وأدخل الطاقية في الماء تحت بعض الأسماك ثم رفعها بسرعة ليتسرب الماء، وتبقى الأسماك، ولكنه لم يظفر من ذلك بشيء.
* * *
النفس تعشق الحسن في النساء وغيرهن، وقد طاب لي أيها القراء الكرام أن أقدم لكم حديثاً عن حسناوات إسبانيات لا أزال أتذكرهن وأشتاق إليهن وأتمنى لو جددت الصلة بهن، وهؤلاء الحسناوات هن - مع الأسف - من الذكريات لا من النساء، فلا تظنوا بي سوءاً، ولا تخبروا بذلك أم معاذ حتى لا تظن أني جهلت بعد أن شبت، وربما كان الحسن في الذكريات، من صور ومعان وأمان ومواقع وعبر وتجارب وخبرات ومعلومات وحوارات وما إلى ذلك، أبقى في النفس وأكثر لذة وإمتاعاً من سواه، خاصة لمثلي ممن يحب الإسلام حباً ملك عليه شغافه، ويحب الأندلس وشعرها وموشحاتها، والطبيعة والترحال، وقراءة التاريخ، حباً عميقاً، وأرجو من القارئ الكريم أن يلتمس لي العذر، وينظر إلى هذه الذكريات الحسناوات على أنها مزيج متسق من الدين والشوق، والأدب والشعر، والتطواف والتاريخ، واستبطان الماضي، واستشراف المستقبل، وليس للنساء الحسان منها نصيب قط.
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق