صلاة في الحمراء
كان يوم الجمعة 30/ 12/ 1416هـ – 17/ 5/ 1996م، يوماً مشمساً جميلاً, وكنت قد أخذت في ليلته حظاً طيباً من النوم، يتيح لي أن أزور الحمراء وأنا هادئ مستريح يقظ الوجدان، ذلك أني اعتدت على أن تكون زيارتي لمكان تعلقته، زيارة أناة وتأمل وتذكر واستبطان، أؤديها بكل حواسي، خلافاً لمن يفعل ذلك وكأنه يمارس عملاً ميكانيكياً آلياً، يريد أن يضيف من خلاله إلى سجل زياراته السابقة رقماً جديداً.
خرجت من الفندق الذي قضيت فيه الليل في وسط غرناطة إلى حمرائها الشهيرة، واشتريت تذكرة دخول، فلما هممت بالدخول منعني الحارس، ثم تبين لي أن زوار الحمراء يدخلونها أفواجاً، بين الفوج والفوج الآخر زمن محسوب، لأن عددهم كبير، ووجودهم جميعاً دفعة واحدة في الحمراء يضر بها بسبب التدافع الذي يؤذي الأرض والآثار، وبسبب الأنفاس الكثيرة التي تؤذي النقوش والألوان، وما إلى ذلك من مخاوف يعرفها المشرفون على حراسة الحمراء وصيانتها أكثر منا. تبين لي أن بيني وبين ميعاد دخولي ساعتين أو أكثر، فقررت أن أنفق هذا الوقت في باحة الانتظار مع سواي من المنتظرين، وكانوا كثيرين، ومن بلدان مختلفة، وجلست أقرأ وأدون بعض الملاحظات، وأمشي حيناً وأجلس حيناً، وأدافع الملل بطريقة أو أخرى.
وخلال هذا الانتظار لاحظت أن رحلة مدرسية تقودها راهبة عجوز، قد مل أعضاؤها من الانتظار، فأخذوا - بنين وبنات - يمارسون ألعاباً ومسابقات مختلفة مسلية، ثم لم يلبثوا أن شكلوا دائرة وبدؤوا بالدبكة، ومع أن ثقافتي الفنية في الدبكة وما إليها ثقافة هزيلة، أحسست أن الدبكة هي دبكتنا المعهودة بالتمام والكمال، وخيّل إلي أنها من بقايا المسلمين الذين أجبروا على التنصر، توارثها الأحفاد عن الأجداد، وزاد في إحساسي هذا ما سمعته من أناشيد كانت تؤدى مع الدبكة، أما الكلمات فما فهمت لها معنى، وأما الألحان فقد أحسست أنها ألحاننا العربية، ولا عجب، فالفولكلور ذو امتدادات عجيبة في الذاكرة والوجدان، والإيماء والزي والحركة من حيث يعلم الناس أو لا يعلمون، قلت في نفسي: إذا كانت الدبكة دبكتنا، والألحان ألحاننا، ألا يمكن أن يكون جد هذا الفتى الذي يحمل اسم خوسيه مثلاً هوأحمد، وجد هذه الفتاة التي تحمل اسم ليزا مثلاً هي عائشة؟ وخطر لي أن أتوجه بهذا السؤال إلى الراهبة العجوز أو سواها لكني لم أفعل لجهلي بالإسبانية، ولأني - لو عرفتها وسألت فعلاً - سوف أقابل بنظرات تشي باتهامي بعقلي، وعلى كل حال انفضّت الدبكة حين دعينا إلى الدخول إلى قصر الحمراء مع الفوج الذي جاء وقته فدخلت مع الداخلين.
ومع أنني زرت الحمراء مرات كثيرة مصراً على الاستمرار في عادتي، لم أكن عجلاً قط، بل كنت أتأنى وأتأمل وأحدق وأتذكر، وأحرص ألا يفوتني شيء، كنت كمن يريد أن يفوز بأكبر غنيمة من المتعة البصرية والنفسية والفكرية خلال التجوال، كنت كالظامئ الذي يريد أن يعتصر كأس الماء البارد حتى آخر قطرة. وقد أعانني على ذلك أنني كنت وحدي فلا صديق يحثني على الإسراع لأنه قضى نهمته من المكان فملّ، ولا مجموعة مرتبطة بجدول ونظام ومواعيد تقول لي: لقد أخّرت سواك، وأنا امرؤ أحب الخلوة بين الحين والآخر، سواء للقراءة أو الكتابة أو الرياضة أو المراجعة أو الاستكشاف وأجد فيها فائدة جمة، بل فوائد.
انتهيت من مباني الحمراء، أو ما بقي من مبانيها، ثم اتجهت صوب حدائقها الجميلة الشهيرة، المعروفة باسم "جنة العريف" وقضيت فيها وقتاً شائقاً بديعاً في ضحى شائق بديع، أنظر في الماء وأسمع خريره، وأتملى من نوافيره الجميلة، وبحيراته الصغيرة الأنيقة، وسواقيه الصاعدة الهابطة، وأشم الفل والياسمين، وأتأمل في الزهور العجيبة المتنوعة التي لا أعرف أسماء أكثرها، وأحدق ولا أشبع من التحديق في الحدائق المنسقة الجميلة، وأشكالها الهندسية الرائعة، وأرفع نظري وأخفضه في أشجار السرو العالية التي تشكل ممراً متعرجاً جميلاً في بعض الأحيان، وتشكل سوراً جميلاً في بعض الأحيان الأخرى. أنظر وعيناي نهمتان جوابتان تطالبانني بالمزيد، وهما تقولان لي وأنا أصدق ما تقولان: إن جنة العريف، جنة دنيوية حقيقية، جنة يتعانق فيها اللون والماء والظل والنور والخضرة والتنسيق والأزهار والأشجار والنسيم المفعم بالروائح الطيبة، مع ممرات وردهات أنيقة بسيطة صنعها الإنسان من الخشب والجص والأقواس والزخرفة، إنها جنة حقيقية، جميلة جداً، بل آية من الجمال. ولعلك ترى في سواها من القصور والحدائق ما هو أكثر تنظيماً وبذخاً، لكنك تشعر معها أنها أقرب إليك وأنها تبادلك شوقاً بشوق، ومودة بمودة، وأنها تتيح لك - على كثرة زوارها وتنوعهم - فرصة الخلوة المحببة على مقعد منفرد أو تحت ظلال في منطقة منعزلة، لتخلو بنفسك، وتتمتع بهذا الجمال الأخاذ.
نظرت في الساعة فوجدت أن وقت صلاة الجمعة قد حل، ولما كنت مسافراً، فقد عزمت على أداء صلاتي الظهر والعصر قصراً وجمعاً، فانتحيت مكاناً هادئاً يختبئ تحت ظلال ممتدة شكلتها أشجار السرو، وتحريت القبلة وأخذت أصلي.
الطريف أن الرحلة المدرسية التي كانت تقودها الراهبة العجوز مرت بالمخبأ الذي كنت فيه فرآني أحدهم أو إحداهن، ونظر إلي وهو يعجب مما أنا فيه، ولعله يقول في نفسه: ماذا يفعل هذا الكهل العربي الأسمر؟ المهم أنه وشى بي إلى الآخرين والأخريات، فإذا بي أجد نفسي أثناء صلاتي وقد صرت منظراً غريباً يقترب منه عدد فينظر ويستغرب أو يضحك، ويعود إلى مجموعته ليأتي عدد آخر وهكذا، ولا تزال صورة بعض الفتيات الصغيرات اللواتي يلبسن زياً موحداً، ولعلهن في المرحلة الابتدائية، ينظرن إلي ويتغامزن ويتقافزن ثم يعدن إلى الراهبة العجوز التي كانت حريصة جداً عليهن، تعنى بهن وتشفق عليهن وتعيدهن إلى الترتيب الذي بدأت به معهن بصبر ومودة، وكأنها تعبر في ذلك عن أمومتها المفقودة. وربما سألنها عما كنت أفعل، وربما أجابت إجابة صحيحة أو خاطئة.
تمنيت يومها لو كنت أعرف اللغة الإسبانية لأشرح لهن في دقائق معنى الصلاة، ثم أدلف من الصلاة إلى عرض حقيقة الإسلام الكبرى وهي التوحيد، وأقول لهن: إن المسيحي الذي يعتنق الإسلام لا يخسر عيسى عليه السلام بل يكسب إلى جانبه محمدا ً صلى الله عليه وسلم، وأخبرهن ماذا يقول القرآن الكريم عن المسيح عليه السلام وأمه الطاهرة البتول، لأزيل ما علق بأذهانهن الطرية الساذجة من أخطاء مقصودة أو غير مقصودة بحق الإسلام. وانفض الجميع وعدت إلى وحدتي أو خلوتي، وأدركني حزن عميق إذ تذكرت كيف ساد الإسلام في هذه الربوع قروناً طويلة، ثم باد، ثم بدأ الفرح يحل مكان الحزن، والأمل يحل مكان الحسرة حين تذكرت البشائر الجميلة الواعدة لعودة الإسلام إلى الأندلس بل إلى إسبانيا كلها، من خلال مهتدين جدد، ومساجد تبنى، ومراكز تنشأ، ومخيمات تقام، وكتب تنشر. إنها فرصتنا الذهبية لإعادة الإسلام إلى هذه الديار، وبأسلوب سلمي، يعتمد على الكلمة الطيبة والنية الصادقة والقدوة الحسنة قبل كل شيء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق