السبت، 25 ديسمبر 2021

حكاية عاقبة

حكاية عاقبة

     ظل القاضي عاقبة بن يزيد يطيل النظر في الخصومة التي بين يديه، ويقلب فيها أوجه النظر، ويفكر، ويتأمل، راجياً أن يجد الحق، أين هو بين هذين الخصمين فيحكم به.

     ولم يكن عاقبة بالرجل الذي تشتبه عليه الأمور، أو المرء الذي تضطرب عنده الموازين، أو القاضي الذي يجبن أو يتلكأ، كان رجلاً ملء إهابه وأزيد، كان مؤهلاً أحسن ما يكون التأهيل ليغدو قاضياً بارعاً ممتازاً، فهو ذو علم جامع، وهو ذو ذكاء متقد، وهو صاحب صبر وأناة، ثم هو صاحب استقامة وتقوى، يصدع بالحق ويحكم به، ولا يخاف في الله لومة لائم.

     وإذن فقد اجتمعت فيه كل الصفات الممتازة النادرة، التي تتكامل وتتناغم، ليكون بها - بإذن الله - من القضاة الممتازين النادرين.

     ومع ذلك كله لم يستطع عاقبة أن يصل إلى الحق فيحكم به فيريح ويستريح، ذلك أن المشكلة معقدة، والشكوى ذات شعب وفروع، والأدلة مفقودة، والقرائن غائبة، وليس ثمة بصيص من نور.

     وكأن عاقبة وجد في التأجيل حلاً يرتاح إليه بعض الشيء، يلجأ فيه إلى الله تعالى طالباً منه العون. لذا طالت المدة واستغرقت القضية ما لم يستغرقه سواها وقتاً وجهداً، ولعله كان يبصر في تراخي الزمن راحة للنفس وأملاً في الحل.

     لكنه بعد ذلك كله، لم يصل إلى ما كان يرجوه، فلزمه حزن وهم، وجاشت في نفسه رغبة حارة أن يصطلح الخصمان حتى ينصرفا راضيين، دون أن يضطر إلى إصدار حكم ينوء به وجدانه التقي النقي.

     يا لها من قضية شائكة، ويا له من قاض متحرج، إن له حدوداً من الشرع لا يقدر على تجاوزها، وهو بها مقيد ملزم، وهو سعيد بهذه القيود، فرح بهذا الإلزام، وإن من القيود ما هو نافع أعظم النفع، وإن من الإلزام ما هو خير من الحرية. وإذن فإن عاقبة لم يكن ضيق الصدر بما يحيط به من حدود وقيود فهي ضوابط وموازين للخير والشر، لكنه كان ضيق الصدر من عجزه عن الوصول إلى الحقيقة.

     يأتي الخصم الأول ومعه شهود وحجج، ومعه بينة وأدلة، ويأتي الثاني ومعه مثل ذلك أو ما هو أزيد، ويخلو عاقبة بنفسه ليقول في ضراعة حارة: رباه أعني وارحمني وخذ بيدي في هذه المعضلة المستعصية، إنني كالسائر في ليل بهيم، والظلمة حوله مطبقة متراكبة.

* * *

     وظل أمد القضية يتراخى حتى جاء ذلك اليوم.

     قرع باب عاقبة في وقت راحة وهدأة، وكانت فرحة القاضي غامرة حين نظر فوجد أحد الخصمين واقفاً بالباب.

     فرحة من الأعماق هزت فؤاد القاضي الأمين الحائر، فإن قدوم الرجل إلى داره في مثل هذا الوقت لا يتعدى أمرين اثنين: إما أن الرجل قد وقع على أدلة لا تدفع تجعل الحكم لصالحه، وإما أنه اصطلح مع خصمه.

     والأمران طيبان، فما أحسن أن تتبدد سحب الأوهام فيحكم القاضي بالحق وهو من أمره على يقين، وإما أن يكون الصلح والصلح خير. لذا كانت فرحة القاضي كبيرة حين رأى الرجل يستأذنه في الدخول فأذن له.

* * *

     لكن فرحة عاقبة انقلبت إلى حزن وحسرة، ذلك أن الرجل القادم إليه، عرف من بعض الناس أنه يحب الرطب، فعمد إلى جمع قدر طيب منه، مما لذ منه وزكا، وجاء به إلى داره بعد أن رشا البواب ليدخل طبق الرطب إليه.

     ونظر عاقبة إلى الطبق المملوء، فأدرك أنها رشوة ذميمة من رجل ذميم، لعل صاحبها ظنه قاضياً من قضاة السوء فجاءه بها، ولم يلبث أن فعل المعهود من أمثاله، ردّ الرشوة، وطرد صاحبها، وأغلظ له القول. بل إنه أخذ يفتش في نفسه متخوفاً أن يكون فيها عيبٌ لم ينتبه إليه، جعل صاحب الرطب يظن به السوء.

* * *

     في اليوم التالي تقدم الخصمان إلى عاقبة الذي توهم أن نفسه تميل إلى صاحب الرطب، فعظم عليه الأمر، واستهوله، وتخوف أنه لم يعد قادراً على النظر إلى الخصمين بعين واحدة، وأحس أن نزاهته وتقواه، وسمعته وعدالته، موضع امتحان خطير. عندها سارع إلى المهدي، أمير المؤمنين، يحث خطاه صوب قصره في بغداد، وجاء الإذن بالدخول، كيف لا؟ والقاضي العلم النزيه هو من يستأذن؟

     وحين وقف القاضي بين يدي الخليفة، استعفاه من القضاء، ولكن الخليفة تريث، وظن أن بعض الناس تطاول عليه أو رد حكمه، فاستوضح الأمر فوضّحه له عاقبة، وبيّن له خوفه من أن طبق الرطب المردود ربما يدفعه إلى الانحياز إلى صاحبه، فجاء إلى الخليفة يطلب الإقالة قائلاً له: لا آمن أن تقع عليّ حيلة في ديني، وقد فسد الناس، فأقلني يا أمير المؤمنين، وأعفني عفا الله عنك.

* * *

     دهش الخليفة العظيم، وأعجب بقاضيه الألمعي النزيه، وساد الصمت الجليل المكان، وانصرف الجميع معجبين بما كان، وخلا الزمان بنفسه ليروي لنا هذه القصة الرائعة، لنجد فيها نموذجاً يحتذى، وحكاية تروى، فتملأ علينا عقولنا وضمائرنا، ونعجب بها أشد الإعجاب، ونحس بها طريّة شيّقة، بعد وقوعها بأكثر من ألف عام.

* * *

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة