السبت، 25 ديسمبر 2021

الصحابة في سقيفة بني ساعدة

الصحابة في سقيفة بني ساعدة

     أدركني خوف شديد وأنا أقرأ مقالة الأستاذ إبراهيم البليهي "التشرذم العربي" في "الأربعاء" ملحق جريدة المدينة الغراء 17/ 3/ 1423هـ - 29/ 5/ 2002م، فالمقالة ملأى بالمبالغة والتعميم والنظر إلى جزء من الصورة وتجاهل أجزاء أخرى.

     وقارئ المقالة - إذا استسلم لها - سوف ينتهي إلى أن العرب أمة لا تصلح لشيء، وهي مجموعة نقائص وفضائح ومخاز مخجلة.

     وحين فكرت في الرد وجدت أن المقالة ملأى بأمور كثيرة جداً، بحيث إذا تتبعها الإنسان طال الرد وربما تحول إلى كتاب، فآثرت أن أقف عند أمر واحد فقط هو موقف الصحابة الكرامy في سقيفة بني ساعدة حين توفي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

     هذا الموقف حشده الأستاذ البليهي ضمن ما حشد للعرب من مخاز ونقائص وفضائح، ووظفه على أنه تنازع على السلطة، فقال: "ثم إنه قبل أن يقبر الرسول صلى الله عليه وسلم ظهر التنازع على السلطة"، ثم استرسل في استعراض ما حشده.

* * *

     والحقيقة أن موقف الصحابة في سقيفة بني ساعدة موقف جدير بكل احترام وإجلال وثناء، إنه موقف يتسم بالشجاعة، والمسؤولية، والشورى، والحسم، والحوار الأخلاقي، ويكشف أنهم رجال دين كما أنهم رجال دنيا، ينهضون فيهما معاً نهوضاً مشرفاً يرضي الله في سمائه ويرضي عباده في أرضه.

* أدرك الصحابة أن رسولهم الكريم قد مات، وانتهت مهمته على الأرض، وأن عليهم أن يحملوا هذه المهمة الجليلة من بعده، لم يشغلهم الحزن عن الواجب، ولم تحجزهم العاطفة عن العقل، لقد استوعبوا اللحظة التاريخية وهبوا للتصدي لها فأحسنوا وأجادوا، وبداية هذا التصدي الذي جمع بين الذكاء والجرأة أن يلتقوا، فالتقوا في السقيفة، وتلك شجاعة عقلية وشجاعة نفسية أيقنوا معها أن حبهم لرسولهم وبكاءهم عليه لا يغيران من حقيقة موته. نعم لقد أحبوه، ونعم لقد بكوه، لكنهم مضوا فوراً فعملوا ما ينبغي عليهم عمله، وتلك شيمة الرجال الأحرار والمعادن المتفوقة.

* وإدراك الصحابة بفطرتهم السوية وعقولهم المتوقدة لأهمية "اللحظة التاريخية" وأداؤهم الممتاز فيها يذكر الدارس المتابع بأن في حياة الدول والحضارات والحركات والأحزاب - فضلاً عن الأفراد - حالات في غاية الدقة والخطورة يتوقف فيها النجاح والإخفاق، وربما البقاء والفناء، على إدراك أهمية "اللحظة التاريخية" وطريقة التعامل معها، وكم من نجاح وإخفاق، وبقاء وفناء، ترتب على حسن التعامل معها أو سوئه، والأمر أكثر من أن تحصى شواهده. وإذن فإن ما فعله الصحابة في السقيفة يوم وفاة رسولهم الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، هو ذروة الذروة وقمة القمم، وهو أول المواقف الحاسمة الكبرى في التاريخ الإسلامي في مرحلة ما بعد النبوة المطهرة. والصحابة الكرام يستحقون عليه مجموعة من الأوسمة، علماً أنهم أكبر من كل وسام وأغنى عن كل ثناء.

* حين التقى الصحابة الكرام في سقيفة بني ساعدة، أصَّلوا فكرة العمل المؤسسي، الذي يقر بحق الأمة في قيادتها من خلال أهل الحل والعقد، والعمل المؤسسي من أعظم الظواهر الحميدة في التاريخ، والذين يدرسون اليوم نقاط القوة في حضارة اليابان وحضارة الغرب، عليهم أن يجعلوا في مقدمة هذه النقاط احترام العمل المؤسسي وإعلاءه وتقديمه.

* وهم في لقائهم الميمون أصَّلوا أيضاً مبدأ الشورى، فلم ينفرد بالأمر أحد، ولم تلتق مجموعة منفردة وحدها لتقرر أمراً دون الآخرين ثم تأتي إليهم لتأخذ موافقتهم عليه لتضفي على قرارها صبغة الشورى، لا، لم يفعلوا ذلك لأنهم أهل دين يحجزهم عن هذا التزييف، ولأنهم رجال أحرار تأبى فطرتهم السليمة ومعادنهم العالية هذا التزوير. لقد اجتمعوا في العلانية، وتحاوروا وتجادلوا ساعة من نهار، ثم اختاروا الصديق خليفة لهم، فكان خير خلف لخير نبي.

* والصحابة الكرام حين اختاروا خليفتهم العظيم، كانوا قمة في الوعي السياسي، فلم تعش دولة الإسلام الوليدة يوماً واحداً بدون قائد لها، وهذا جعل الدولة تنجو من أي "فراغ دستوري" كما يعبر أهل القانون، فكانوا دستوريين قبل الدستوريين، وقانونيين قبل القانونيين. وتلك محمدة تذكر، ومنقبة تشكر.

* وهم حين اختاروا الصديق خليفة لهم كانوا في غاية الصواب، فقد أثبت هذا الرجل الرقيق الوديع الذي حكم عامين وبعض العام، أنه رجل مسؤولية من طراز رفيع، ورجل شجاعة لا حد لها، وأنه اتخذ أصعب القرارات الحاسمة والصائبة، ونفذها تنفيذاً مدهشاً، فكانت مدة خلافته القصيرة ملأى بالإنجازات العظيمة.

* ثم إن الأداء الرفيع للصحابة في السقيفة، يدل على نجاح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في تربيته لهم، ذلك أنه رباهم رجالاً شجعاناً أحراراً أسوياء، يعرفون ما لهم وما عليهم، ويتحملون مسؤولية هذه المعرفة فيحتملونها ويؤدونها بكفاءة واقتدار، والانتقاص من موقفهم هذا يمكن أن يفسر على أنه طعن في تربية الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام لهم، بدعوى أنهم تنازعوا على السلطة فور وفاته فآثروا دنياهم على دينهم. ومعاذ الله أن أظن بالأستاذ إبراهيم ذلك، لكن هذا التفسير متاح لمن أراده.

* إن الحديث عن موقف الصحابة في سقيفة بني ساعدة، حديث يطول، وهو مفخرة لهم، وشرف وكرامة، ويبدو لي أنه يصلح أن يكون رسالة للماجستير أو الدكتوراه في العلوم السياسية، ونحن المسلمين مطالبون أن نستلهم عبره ودروسه في بناء نظامنا السياسي في حاضرنا ومستقبلنا.

* أرأيت يا أستاذ إبراهيم كيف أخطأت خطأ كبيراً حين انتقصت من موقف الصحابة الكرام في السقيفة، وهو موقف كله مناقب ومكارم وإنجازات ودروس؟

*بقيت مجموعة من الخواطر أود أن أجعلها على شكل برقيات وجيزة أوجهها إلى عقل البليهي ووجدانه، وهو المسلم العربي، الذي سمعت عن عفته ونزاهته وأمانته وتواضعه الكثير، زاده الله توفيقاً وأعانه على تصحيح أخطائه.

* ماذا يقول الأستاذ البليهي في حضارة الإسلام - وقد كان العرب روحها وجوهرها ورأس الحربة فيها - التي شهدت لها أعداد لا تحصى من غير العرب ومن غير المسلمين، من قادة وساسة وأدباء وفنانين ومفكرين ورحالة ومؤرخين، فقالت فيها كلاماً في غاية النفاسة، ولن أدل الأستاذ البليهي على الأقوال والقائلين والكتب التي عنيت بذلك، فهو قارئ ومتابع ولابد أن لديه مكتبة عامرة.

* هناك وجهة نظر شائعة لدى عدد من قادة الغرب - ولا أقول كلهم - ترى أن الإسلام الذي تسميه الخطر الأخضر، هو عدوها الأكبر بعد سقوط الشيوعية التي كانت تسميها الخطر الأحمر، وهؤلاء القادة ينتقصون المسلمين عامة والعرب خاصة، ويحرّضون عليهم، ويقفون ضدهم، وينحازون إلى أعدائهم، ويصفونهم بأسوأ الصفات، ألا يرى الأستاذ البليهي أن متابعة أخطاء العرب، وتكبيرها، وتعميمها، والإلحاح عليها، والسكوت عن فضائلهم، هو جهد خاطئ يصب في خدمة أولئك القادة بطريقة أو بأخرى بقطع النظر عن النوايا، والنوايا الطيبة لا تعني بالضرورة صواب الرأي.

* إن الله تعالى اختار جزيرة العرب منطلقاً لرسالته، وهو الحكيم العليم، وهو عز وجل ﴿أعلم حيث يجعل رسالته﴾ زماناً ومكاناً ولساناً وإنساناً. ومعنى ذلك أن الإنسان العربي كان المؤهل أكثر من سواه لحمل أعباء الرسالة بشهادة رب العزة والجلال، ولابد أن لهذه الأهلية مجموعة من المزايا العالية المتفوقة، فأين حديث البليهي عنها؟

     هذا على صعيد الماضي، أما على صعيد الحاضر فيبقى للإنسان العربي، والمكان العربي، واللسان العربي، الدور الأول في حمل أعباء الرسالة، ولن ننتقص من جهود إخواننا المسلمين غير العرب، ولكن هذه الحقيقة ينبغي أن تعرف. وهذه الحقيقة عرفها وجهر بها الشيخ الصالح والمربي الحكيم أبو الحسن الندوي عليه رحمة الله، فأشاد بالعرب كثيراً، وتحدث عن مزاياهم المقررة، وأكثر من التأكيد على أن العرب ينبغي أن يتقدموا المسلمين أجمعين ليكونوا القادة والرادة في ركب الإصلاح والدعوة والتغيير، وجعل قيادتهم لهذا الركب من أهم أسباب النجاح المأمول، وطالما حثّهم وحضّهم وحمّلهم المسؤولية، وحسناً فعل. وشهادة الشيخ الندوي لها قيمتها المقدرة لسببين مهمين، الأول: عفته وزهده وبراءته وغيرته المحمودة على الأمة، والثاني: معرفته العميقة بالتاريخ الإسلامي وحركات الإصلاح والتجديد فيه.

* قرر محمد إقبال وهو الشاعر المفكر الفيلسوف، أن العقل المسلم العربي في جملته استطاع أن يفهم الإسلام أكثر من العقل المسلم غير العربي في جملته، وهو رأي ذكي قاله آخرون، وهي نقطة متميزة تحسب للعرب، ومن أسبابها أن اللغة العربية هي وعاء الكتاب والسنة ومعظم التراث الإسلامي، ومعرفتهم بها لأنهم أهلها جعلتهم أقدر على فهم الإسلام من سواهم، يضاف إلى ذلك أن للعقل العربي مرونة وذكاء وقدرة على التجديد، ومرة أخرى نحن لا نجحد فضائل المسلمين غير العرب ومعاذ الله أن نفعل ذلك فديننا يعلمنا الإنصاف حتى مع الخصوم لكننا نقرر حقيقة مؤكدة.

* انتشر المسلمون الحضارمة في جنوب شرقي آسيا، وفي شرق أفريقيا، فكانوا نماذج مشرفة للاستقامة والأمانة والصدق، فأسلمت الملايين على أيديهم في بلاد لم تطأها قدم جندي مسلم قط، أسلمت هذه الملايين من خلال إعجابها بالقدوة الحسنة التي مثلها المسلم الحضرمي، والحضرمي عربي صميم خالص العروبة، حمل مع إسلامه عروبته حيث هاجر. ترى أليست هذه الصفحة الحضارية الرائعة بل والمدهشة مما يحسب للإنسان العربي من مزايا نبيلة؟

* مرت بالعرب نكبات هائلة تجاوزوها وخرجوا منها منتصرين مع فداحتها، وأهمها اجتياح التتار لهم، والحروب الصليبية العاتية ضدهم، والهجمة الاستعمارية الغربية عليهم، ولولا ما للعرب من مزايا رائعة وأهمها الإسلام لانقرضوا.

* تمر الأمة المسلمة - من عرب وغير عرب - بحالة ضعف وخذلان، لكنها سوف تتجاوز بإذن الله هذه الحالة، لأنها تمتلك العقيدة الصحيحة، والموقع النفيس، والممرات الاستراتيجية، والثروات الكبيرة، والتجدد الديمغرافي، وخطها البياني - مع الإقرار بكل أخطائها - خط صاعد في الجملة، وبإذن الله سيكون يومها خيراً من أمسها، وغدها خيراً من يومها والمبشرات كثيرة ومنها ما يفعله الشعب الفلسطيني البطل الذي أخذ يعيد قضيته إلى هويتها الحقيقية وهي أنها قضية إسلامية، وأخذ يحرر نفسه من الخوف، وأخذ يستبسل في طلب الشهادة، وأخذ يقاتل تحت شعار "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وهذه هي البداية الصحيحة للتحرير الحقيقي، أن يتحرر الإنسان فيحرر المكان.

* المسلمون عامة والعرب خاصة، أمة مستهدفة، والظالمون لا يخافون إلا القوي أو من يحمل عوامل القوة فيستهدفونهم، ونحن إن لم نكن اليوم أقوياء فإننا نحمل كل عوامل القوة ونحن سنملكها - بإذن الله - في يوم قادم. ألا يرى الأستاذ إبراهيم في استهدافنا من قبل الظالمين أمارة واضحة تدل على شعورهم بأهميتنا، ومخاوفهم من غدنا الواعد الصاعد؟

* غفر الله لي وللأستاذ إبراهيم، وأعاننا على معرفة أخطائنا وتجاوزها.

* * *

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة