يحدّثونك عن النجاح
الإرادة أولاً
كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن النجاح في الحياة، وتنوع المتحدثون في هذا الأمر، وتنوع الحديث أيضاً، وهو أمر محمود ونافع ومطلوب، يمثل ظاهرة إيجابية جديرة بالعناية والاهتمام، للناس عامة وللشباب خاصة.
ويدور الحديث في العادة على حَفْز الإنسان على الإبداع، والتجدد، وإدراك منطق الأولويات، فضلاً عن التقويم، والقراءة، والصحبة، والصبر، وتحديد الغاية، وضبط الوسيلة المناسبة المؤدية لها، وما إلى ذلك، وهذا كله صواب وخير، ينبغي لنا أن نفرح به ونستزيد منه.
والذي أريد أن أقوله هو أن "الإرادة" هي أهم أسباب النجاح وأولها، ومن هنا جاء العنوان "الإرادة أولاً" فالإرادة هي الخطوة الأولى التي تجر ما وراءها من خطوات. وبين يدي أربع وقائع عملية تشهد بذلك، عرفت أصحابها معرفة شخصية من بداياتهم المتواضعة حتى وصلوا ذروة النجاح.
* * *
عرفت الأول وهو "ح - ش" طالباً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، قادماً إليها من بلد عربي شقيق وكان جاداً قليل الكلام، مستقيماً، يعيش عيشة أقرب إلى الكفاف كما هو شأن أكثر الطلاب، حدد هدفه بدقة، وحدد الوسيلة المؤدية إليه، وتسلّح بالإرادة، وثابر وصابر، فحصل على درجة البكالوريوس بتفوق، وهو ما هيأ له فرصة الدراسة العليا، فحصل على الماجستير بتفوق، ثم على الدكتوراه بتفوق، وأذكر أني حضرت جلسة المناقشة، وكنت أراه - وأنا في غاية السعادة - يقدم ملخص الرسالة ويجيب عن أسئلة اللجنة المناقشة لها، ثم عمل مدرساً للحديث الشريف - وهو تخصصه - في كل من ماليزيا وأمريكا، ثم عمل - بالتعاون مع سواه - على إنشاء جامعة إسلامية مفتوحة في أمريكا تعمل من خلال الانتساب، وتمنح طلبتها درجتي الماجستير والدكتوراه، وهو اليوم أحد من يستشارون في الأحاديث الشريفة، من حيث درجتها، وشرحها، ومظانها، وما إلى ذلك، وأذكر أنه تزوج وهو في سنواته الأولى من الدراسة ولعل له اليوم عدداً من الأولاد، وصل بعضهم إلى المرحلة الجامعية وعسى أن يسيروا على نهج أبيهم في الاستقامة والإرادة.
* * *
أما الثاني وهو "ع - ب" فقد عرفته وهو في العقد الرابع من عمره يحمل درجة الليسانس في الحقوق من مصر، ويعمل مستشاراً قانونياً في إحدى دوائر الدولة في الرياض، وقد رأيته مرات كثيرة خلال سنوات عمله، وكان سلوكه وأدبه فضلاً عن لهجته، أدلّة تشير إلى بلده المجاور الذي قدم منه وهو بلد عرف أبناؤه بالاستقامة والتوفير، والهجرة وطول النفس، عاش على الكفاف، وعاش أحياناً على أقل من الكفاف، بحيث صار بعض زملائه يتندرون عليه ويتهمونه بالبخل، وكنت خلافاً لهم أكبر فيه همته وأقدر ظروفه وأحترم طموحه.
جمع الرجل قدراً طيباً من المال، ثم ذهب إلى بريطانيا، حيث لبث فيها بضع سنوات عاد بعدها، خبيراً في الاقتصاد، مرجعاً في تخصصه، متقناً للغة الإنجليزية، وهو اليوم مستشار كبير في أحد البنوك، مكانه كبير ودخله وفير، ويمتلك بيتاً فاخراً في واحد من أحياء الرياض، وله >ديوانية< أسبوعية في بيته العامر، يلتقي فيها الناس فيتحدثون ويسمرون ويستمعون إلى محاضرة أسبوعية يديرها هو، أو يديرها أحد خلصائه، وله صلات واسعة مهمة، وله خدم وحشم. زرته في بيته العامر أكثر من مرة، وتذكرت حالته بين أمسه ويومه، وحمدت له إرادته ودعوت له.
* * *
أما الثالث فهو الشيخ "م - أ" عرفته طالباً في المرحلة المتوسطة في المدينة المنورة، على منوِّرها أفضل الصلاة والسلام، حيث كنت مدرساً في إحدى مدارسها، وكان واحداً من طلابي. كنت أعطف عليه وأشجعه، لأدبه، ولاستقامته، ولفقره، ولغربته أيضاً، فقد كان أبوه من القادمين إلى المدينة المنورة من بلده النائي البعيد الواقع في جنوب شرق آسيا.
والتحق إلى جانب المعهد الذي كان يدرس فيه، بإحدى مدارس تحفيظ القرآن الكريم واستمر على ما عهده الناس منه، من أدب وصبر واستقامة، فازداد حب الناس له خاصة أنه كان ذا خلق حسن وصوت حسن.
ومرت الأيام، فأنهى المرحلتين المتوسطة والثانوية، ثم التحق بالجامعة فحصل على الليسانس فالماجستير فالدكتوراه، وهو اليوم أحد أئمة المسجد النبوي الشريف، وأحد القراء المشهورين الذين يذاع لهم في الإذاعات، وتباع أشرطتهم هنا وهناك، وأقبلت عليه الدنيا فكثر بين يديه المال، وصارت له منزلة وجاه، وتزوج ثلاث نسوة، وعرضت رابعة نفسها عليه، لقد أدرك نجاحاً كبيراً بإذن الله تعالى، وكانت الإرادة أول أسلحته فيما نال، لم ألقه منذ تلك الأيام قط، ولكني أسمع له في الإذاعة، وأتابع نجاحه المتواصل، وأفرح له، وأدعو له، وأرى فيه نموذجاً جديراً بالاحتذاء، وسمعت أنه لا يزال يذكرني بخير، وهذا من وفائه وطيب معدنه، ولعل لي بعض الجهد في نجاحه لأني كنت أحنو عليه وأشجعه، ولعل لي بعض الثواب في ذلك وهو خير وأبقى.
* * *
أما الرابع فهو "م - ش - خ" وهو من مصر، وقصته أعجوبة من الأعاجيب، وهي جديرة بأن يحولها روائي مقتدر إلى قصة شيقة، ومخرج بارع إلى فلم سينمائي، كان عمره في حدود العشرين أو أقل قليلاً حين اعتقلته الشرطة المصرية عام 1954م إبان الصراع بين جماعة الإخوان المسلمين وبين الرئيس جمال عبد الناصر، فقد كان واحداً من أعضائها. وقد حكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم إلى المؤبد، وظل في السجن عشرين عاماً حتى أفرج عنه الرئيس أنور السادات خلال المصالحة التي تمت بينه وبين الإخوان في أواسط عهده.
خرج من السجن قوي الإرادة، فاستعاد قيده في الجامعة فإذا به طالب في كلية الهندسة لا يخجل من زملائه الذين هم أصغر منه بكثير، وقد أعانه على مواصلة كفاحه بعد محنته الطويلة أنه كان هادئاً بشوشاً رياضياً.
ثم شاء الله تعالى، وله حكمته البالغة أن يمتحنه امتحاناً قاسياً، فقد اختل توازنه ذات يوم فوقع على الأرض حيث يمر المترو، فجاء المترو فقطع ساقيه الاثنتين معاً. لم يستسلم للحزن ولم يركن إلى الشكوى، فسافر إلى ألمانيا لتركيب ساقين صناعيتين في جهة متخصصة. وتم تركيب الساقين، وأخذ المختصون يدربونه على المشي عليهما، وكان ممن يعنون به راهبة ألمانية نذرت نفسها للدين المسيحي والتبشير به، وقضت في الصين تمارس التبشير من خلال العناية بالمرضى مدة تقارب المدة التي قضاها صاحبنا في سجنه.
ومع الزمن بدأت الراهبة تعجب بصاحبنا، أعجبت بصبره واستقامته ورضاه بالابتلاء، وجرت بينهما أحاديث متنوعة، ثم إنها استغربت كيف يسجن هذا الرجل وهو ذو استقامة نادرة، ثم فهمت أنه سجن لسبب سياسي، وحين استوعبت أمر صاحبنا تماماً وعرفته معرفة دقيقة، قادها إعجابها به إلى الإعجاب بدينه، فتركت الرهبنة، وأسلمت وتزوجته، وهي اليوم تعيش معه في مصر.
عاد صاحبنا إلى مصر، ومعه زوجته الفاضلة، وصبره النادر، وقدماه الصناعيتان، ومعه سيارة ألمانية يتم تحريكها باليدين لا القدمين صنعت لأمثاله من المعاقين.
وفي مصر بدأ يشتري قطعاً من الأرض، ويبني عليها عدداً من الشقق ويبيعها، وهنا أقبلت عليه الدنيا وتكاثر طالبو الشراء منه، لأنهم كانوا على يقين تام أنه يلتزم التزاماً تاماً بكل ما يعد به من إتقان ومواعيد، وكثر المال بين يديه فتوسع في مشروعاته المتصلة بالبناء، فأسس مصنعاً للبلاط، وآخر للرخام، وثالثاً للطوب وهكذا، ويعينه فيما ينشط فيه عمال ومهندسون وفنيون، يحبهم ويحبونه ويستفيد منهم ويستفيدون منه.
* * *
لقد حرصت على أن أغفل ذكر أسماء هؤلاء الناجحين، خوفاً من إحراجهم، فقد يكون لهم رأي مخالف لما عندي، ولولا الخوف لذكرتها كاملة، مكللة بالثناء، معطرة بالشذا، لأني أرى ما فعلوه كرامة لهم، ووساماً على صدورهم، وشرفاً لهم في الدنيا والآخرة.
بارك الله عليهم، وزادهم تفوقاً وتألقاً، ونفعهم ونفع بهم، ورفعهم ورفع بهم، واستعملهم فيما يرضيه، وجعلهم للشبان أسوة حسنة ونماذج تحتذى وتقتدى.
هذه القصص الأربع لهؤلاء الفرسان النادرين، التي رأيتها رأي العين، وعرفت أصحابها معرفة شخصية، هي شواهد تقول بأفصح لسان وأقوى حجة: إن أسباب النجاح كثيرة، فإذا جئنا إلى ترتيبها فإن "الإرادة أولاً".
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق