"فرتونة" وعمر بن عبد العزيز
في عام (100هـ) شكت جارية سوداء تسمى "فرتونة" إلى أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز بأن لها حائطاً قصيراً يُقْتَحَمُ منه عليها فيُسْرَقُ دجاجُها، فأرسل عمر فوراً يخبرها أنه أرسل إلى والي مصر يطلب إليه أن يصلحَ لها حائطها، ويحصّنَ لها بيتها، وكتب إلى واليه على مصر، أيوبَ بنِ شُرَحْبيل: "إن (فرتونة) قد كتبت إليّ تذكر قِصَرَ حائطها، وأنه يُسْرَقُ منه دجاجُها، وتسألُ تحصينَه لها، فإذا جاءك كتابي هذا فاركبْ أنت بنفسك إليه حتى تحصنَه لها".
فلما وصله الكتاب ركب بنفسه إلى الجيزة ليسألَ عن فرتونة حتى عثر على محلها فإذا هي مسكينة، فأعلمها بما كتب به أمير المؤمنين، وحصّن لها بيتها.
هذا مَثَلٌ فذ مما فعلته حضارتنا الربانية المعطاء قبل ثلاثة عشر قرناً من الزمان، وفي هذا المثل الفريد، ما لا يخفى من المستوى الرفيع الذي حققه الإسلام لأبنائه حين التزموه بصدق، فسَما بهم وحلّق، وزكا وارتفع، وجعلهم في درجةٍ كريمة رائعة من التفوق النبيل، حكّاماً ومحكومين.
لا يَغِبْ عنا صنيعُ "فرتونة"، التي أوقدَ الإسلامُ في نفسها العزةَ والكرامة، فإذا بها تستشعر كرامتها وقيمتها، وإذا بها تدرك منزلتها مخلوقاً بشرياً محترماً له حقٌّ يعرفه عن بصيرة، ثم يطالب به عن إدراك.
و"فرتونة" هذه، الجارية المسكينة البائسة؛ كان لها من الإحساس الكريم بالواجبات والحقوق بين الحاكم والمحكوم، ما حملها على أن تطالبَ أميرَ المؤمنين نفسَه، من خلال رسالة تبعث بها إليه أن يصلح لها أمرها، ويُعْنى بقضيتها التي تعيش معها، وهي أن يُبْنى لها حائطٌ مرتفع ليكون دجاجها في مأمن من عاديات اللصوص.
ولا يَغِبْ عنا ذلك، ولا يَغِبْ عنا أيضاً ما في استجابة الخليفة وواليه من خُلقٍ كريمٍ نبيل، وإحساسٍ بالمسؤولية قويٍّ حادٍ رهيف.
وربما خطر لنا أن موضوعَ هذه الشكوى موضوع صغير هيّن، وأنه لا يَصْلُحُ نموذجاً للاستشهاد به على سمو حضارتنا وتألقها، فالحضارات إنما يُنْظَرُ إليها من خلال إنجازاتها الكبرى فحسب!.. ربما يخطر لنا ذلك، وربما يبدو أنه الحق فعلاً، ولكنْ لا نَعْجَلْ، صحيح أن الحضارات يُنْظَرُ إليها من إنجازاتها الكبرى وأصولِها الضخمة وقواعدها الأساسية، ولكن ربّما دل الصغير على الكبير، وربما قاد الهيّن إلى الخطير الجليل، وإن في هذه الحادثة من الدلالات البينة ما يشير إلى ذلك بوضوح وجلاء.
حقاً إن طلب "فرتونة"، من حيث هو قيمةٌ مادية فحسب، طلبٌ هيّنٌ صغير، ولكن دلالة هذا الطلب على شعورها بحقها، وإحساسها لواجبات الحاكم دلالةٌ ضخمة كبيرة، ومعنى هذا أن الموجةَ التحررية التي أطلقها الإسلام لتحريرِ أرواح البشر ونفوسهم، قد امتدت حقاً، ومارست دورها حقاً، فإذا بها تشمل القريب والبعيد، وإذا بها تضرب عميقاً في الجذور، وإذا بها تجعل واحدةً مثل "فرتونة" تعرف ما الذي لها، وما الذي عليها، ولا ترى شيئاً يمنعها، وقد حرر الإسلامُ روحَها، من الكتابةِ إلى أمير المؤمنين نفسِه، وبينهما ما بين الخليفة والجارية من حيثُ المكانة، وما بين مصر ودمشق من حيثُ المكان.
ومن أجل هذا نستطيع أن نقرر استناداً إلى حادثة "فرتونة" ومثيلاتٍ لها كثيرات كأمرِ عبد الملك بن مروان مع عطاءِ بن أبي رباح، وكأمرِ المقوقس مع عُبادة بن الصامت.
إن الحضارة الإسلامية إنْ من حيثُ المبادئُ النظرية، وإنْ من حيثُ التطبيقُ العملي كانت شديدةَ التفوق، عظيمة الغِنى بالمعاني الإنسانية الكريمة التي تُعْلي قَدْرَ الإنسان من حيث هو إنسان، والتي ترتفع على كل الحواجز الصناعية الكاذبة، التي توزع الناس، إلى أقسامٍ شتّى، بسبب لونٍ أو لغة، أو جنسٍ أو إقليم، يُكْرَمُ قسمٌ ويُهان آخر، لا لسببٍ وجيه، ولكن بسبب واحد من هاتيك الاعتبارات الضالة المتخلفة.
وإن معنى التخلف يكاد ينصرف اليوم إلى التأخر في جوانب الماديات من صناعة وطب، وزراعة وعلوم، وطرقات وأدوات، فحسب، لكنه في الحقيقة يتسع ويتعاظم ليشملَ هذا الذي ذكرناه، وليشمل كذلك المعاني الفكرية، والأسس العقائدية، والقواعد والمنطلقات، والقيم والمُثُل، والغايات والأهداف، والموازين والمقاييس، وكل الذي يمكن أن يُسمّى بالمعنويات.
وربما كانت حضارةٌ ما تتقدم في جانب من هذين وتتأخر في آخر، وما شأن الحضارة الغربية المعاصرة عنا ببعيد، فهي بمقدار ما تتقدم في الماديات تتأخر في المعنويات.
أما الحضارة الإسلامية فقد كان تفوقها في المعنويات رائعاً جداً، يشهد بذلك ما سقناه من هذا الخبر، بحيث لم تظهرْ حضارةٌ أخرى قط تساويها في هذا الجانب فضلاً عن أن تسبقَها، أما جانب الماديات فقد كان لها فيه بالقياس إلى فترتِها الزمنية، ومكانِها في دورةِ الحضارة البشرية عامة، مكانٌ هو الآخر، ضخمٌ كبير.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق