نبيه فارس والمبشرون
كتب الأستاذ نبيه أمين فارس أحد كبار أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت: في مجلة الأبحاث عام 1958م؛ كلاماً واعياً جريئاً يجدر بالمرء أن يتوقف عنده. قال هذا المؤرخ العربي:
بينما كان الشرق الأدنى مطمحاً لأفكار بناة الإمبراطوريات، كان أيضاً مطمح أنظار جماعة أخرى من الناس تنشد أن تنجز عن طريق "الكلمة" ما عجز أجدادها الصليبيون عن تحقيقه عن طريق السيف، وبعبارة أخرى تَنشد احتلال مهد المسيحية وإخضاع العالم كله للمسيح.
إن هذا الحلم المسيحي قديم قِدَمَ المسيحية ذاتها، وهو يستمد وحيه الدائم من الوصية العظمى كما سجلها أول المبشرين القدّيس لويس. ولعل سبب سيطرة هذه الوصية كرّةَ أخرى على عقول المسيحيين يعود إلى اليقظة الدينية التي عمّت في إنكلترا في أواخر القرن الثامن عشر، واليقظة الدينية المقابلة لها في الولايات المتحدة تمثلت فيما سمّي بروح إنكلترا الجديدة.
وعلى ذلك فقد شهدت السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر والسنوات الأولى من القرن التاسع عشر ظهور كثير من الجمعيات التبشيرية التي كرّست نفسها لحمل الإنجيل إلى جميع البشر.
ويمكن أن يُضافَ إلى هذين العاملين عامل آخر هو ازدياد المطامع السياسية والاقتصادية في ممتلكات رجل أوربا المريض [يقصد الدولة العثمانية]، ومن المحتمل أن يكون لهذا العامل الأخير علاقة باختيار الشرق الأدنى ميداناً مفضلاً للنشاط التبشيري.
ومن أهم هذه الجمعيات التبشيرية التي ظهرت هذه الفترة "الجمعية التبشيرية الإنكليزية" التي أُسِّسَت في لندن عام 1799م، و"المجلس الأمريكي لمندوبي البعثات التبشيرية"، وقد أرسل المجلس الأمريكي بعد تسع سنين من تأسيسه أول مُبشريَّة إلى الشرق الأدنى.
ويذكر الأستاذ نبيه أمين فارس أن المبشرين الذين اختاروا أن يجعلوا ميدان نشاطهم في مناطق بلاد الشام لكسب الكفار على زعمهم إلى دين المسيح عليه الصلاة والسلام، سرعان ما وجدوا أن الإسلام لم يكن قد فقد سيطرته على قلوب المؤمنين، وأن المبشرين صمّموا منذ البداية على استعمال الكلمة حيث فشل استعمال السيف.
وفي سبيل هذه الغاية أسسوا المطبعة الأمريكية أولاً في مالطة عام 1822م، وفي بيروت عام 1834م، وأخذوا يفتحون مدارس للبنين والبنات بصورة منتظمة حتى بلغ عدد هذه المدارس ثلاثاً وثلاثين في أقل من هذا العدد من السنين، وعكفوا على إنجاز إعداد ترجمة عربية صالحة مقروءة للتوراة.
وحين تضع كلام الأستاذ المؤرخ نبيه أمين فارس، في محله من التصوّر العام للخطة الصليبية لمحاربة الإسلام والمسلمين، تجد أنك تعود إلى وصية لويس التاسع الذي ترك معالم أساسية، ومقترحات جذرية، لخطة كبيرة شاملة تهدف إلى القضاء على الإسلام والمسلمين، بوسائل شتى، أهمها "الكلمة" لعلها تنجح حيث أخفق السيف.
وما من ريب في أن المسلمين طُعِنوا من مصادر متعددة من بينها التعليم الذي بدأته الإرساليات التبشيرية بكل ما فيه من دس وسموم، وكيد خفي وظاهر، وكذلك الأمر بالنسبة للتعليم الذي أنشئ في العالم الإسلامي على أيدي قادة الاستعمار، ذلك أن هذا التعليم كان يتلاقى في النهاية مع أهداف التعليم الذي أنشأه المبشرون، وقُل مثل ذلك عن التعليم الذي أنشأه المستغربون من أبناء المسلمين، أولئك الذين نشؤوا على قيم الغرب ومفاهيمه ومُثله وثقافته، وجعلوا وجهتهم الفكرية إليه، وإعجابهم الثقافي به.
وهنا يتلاقى عمل المبشر مثل زويمر، والقائد الاستعماري مثل كرومر، والمخطِّط الأجنبي للتعليم مثل دنلوب، والمخطِّط والمنفِّذ المستغرِب مثل طه حسين ومَنْ إليه، على خدمة الهدف الأكبر لحركتي الاستشراق والتبشير، وحركة التغريب من بعدهما.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق