الإصلاح والتربية
على الرغم من فكرة الإصلاح تستهوي كثيراً من الناس، وتُعجب بها طوائف كثيرة من البشر، وتنجذب إليها عن رغبة صادقة في الخير، ورجاء حقيقي نبيل في تحقيق الإصلاح بالفعل، وعلى الرغم من ذيوع هذه الفكرة وتداولها بين الناس واستمرار الحديث عنها في صور شتى وأشكال متباينة، فإن هذه الفكرة لم تحظَ عند الكثيرين بالفهم العميق الجاد، والدراسة المتأنية البصيرة، فضلاً عن أن تستحيل لديهم من فكرة نظرية إلى خطة عملية قابلة للتطبيق في واقع الحياة العملي.
إن إصلاح الأمم والأفراد أمر عسير حقاً لا يجيء جزافاً ولا يتحقق عفواً، ولا يتم بجهد يسير ولا يمنح قياده لكل مُطالِب به حتى لو كان هذا المُطالِب به حسن النية صادق الرغبة فيما يفعل ويقول ويدعو إليه، ذلك أنه لا بد للإصلاح كي يتم من مُصْلِحٍ مخلص بصير، ومن عمل دائب صبور، ومن جهد متكامل متوازن، بحيث يحقق المصلح من خلال ذلك تربية عميقة أصيلة تبعد السلبيات، وتزيد الإيجابيات، وتدفع بحركة الإصلاح إلى الأمام.
والأمة -فضلاً عن الفرد- لا تنهض من كبوة، ولا تقوى من ضعف، ولا ترتقي من هبوط، ولا تنجو من عيوب، إلّا بعد تربية أصيلة متكاملة، عميقة حقة، جادة ذكية. وقد تبدو التربية أمراً سهلاً لكنَّ هذا في الواقع خطأ كبير، فالتربية الهادفة التي نطلبها هي أشقُّ عمل في هذه الحياة على الإطلاق، وشتان بين تربية النفوس وإنمائها وصقلها، وتهذيبها والسموّ بها، وتفجير طاقاتها وإمكاناتها، وإنقاذها من عيوبها، وزرع الفضائل والمكرُمات فيها، وبين أي عمل آخر مثل إنشاء المباني وإقامة الجسور وشق الطرقات وتشييد المباني، بناء السدود، فذلك كله وإن كان لازماً ونافعاً ومطلوباً أقل بكثير من تربية الناس، أفراداً وأمماً، أقل من حيث الثمرة المطلوبة، وأقل من حيث الجهد المبذول.
وإذن فإصلاح الأمم لا يتم إلا بتربية صادقة متكاملة، متناسقة متوازنة، تُحدِثُ فيها التغيير النفسي العميق، وتغوص بعيداً في الأعماق، وتحوّل الهمود إلى حركة، والغفوة إلى صحوة، والركود إلى يقظة، والفتور إلى عزيمة، والقعود إلى طاقة فعّالة بنّاءة، وتُوَزَّعَ الاهتمامات وتشتتها وتفرقها، إلى وجهة محددة بدقة، عرفت وسائلها بدقة وحددت طرقها التي تقود إليها. تربية تحوّل الوجهة والأخلاق والميول والعادات، وتهذب الغرائز والرغبات، وتُحدِث تبديلاً عميقاً جداً في حياة الأمة يجعل إمكاناتها تتدافع في طريق الخير والحق على كافة المستويات، وبدون ذلك يكون الإصلاح كذباً ولهواً، والنهضة حبراً على ورق، وشعارات التطوير والتنمية والرقي وما إلى ذلك كلاماً أجوف يتبدد في الهواء.
ولقد قرر القرآن الكريم سنة قائمة ثابتة من سنن الله عز وجل في هذه الحياة ... وذلك في الآية الكريمة المعجزة، الوجيزة جداً، الغنية جداً: ﴿إِنَّ اللّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، فبدء التغيير إذن يكون من داخل النفس الإنسانية قبل أي شيء آخر، ولكن هذا التغيير ليس بالأمر السهل الهيّن، إنه عبء ثقيل شاق وإنْ كان عبئاً نبيلاً، تنوء به الكواهل، وتعيا دونه الهمم، ما لم تستند إلى القوة التي لا تنفد، والمعين الذي لا ينضب، إلى الإيمان، ذلك أن الإنسان مخلوق مركّب معقّد جداً، ومن أصعب الصعب تغيير نفسه وسلوكه وقلبه، لكنه إن تم تغييره وفقاً لتعاليم الإيمان الخيّرة، جاء الإصلاح الحقيقي الجاد، والتربية المنشودة المأمولة، وتدفق منه العطاء النافع المبارك، وصحّت مسيرته، واستقامت طريقته، وعاد بالنفع على نفسه، وعلى مَنْ حوله، وعلى جماعته وبلده.
ولا شك أن التحكم في مياه نهر كبير، أو تحويل مجراه، أو حفر الأرض، أو نسف الصخور، أو شق الطريق، أو بناء المعامل والسدود، أو أي تغيير في معالم الكون المادي أسهل بكثير من تغيير النفوس وصياغة القلوب والعقول، فبناء تلك الأشياء المادية أمر سهل حين تتوفر أدواته ووسائله، أما بناء الإنسان فهو أمر شاق حقاً.
إن من العسير الصعب الشاق حقاً أن تبني الإنسان، الإنسان القادر على نفسه، المسيطر على رغباته ونوازعه، الموجّه لطاقاته في سبيل الخير، النائي بمحض اختياره عن الشرور، الملتزم بإرادته الحرة بالفضائل والمكرمات، المتحكم في شهواته، المحدد لغايته ووسيلته معاً، الذي يؤدي واجبَه قبل أن يطلبَ حقه، الذي يعرف الحق ويتبناه ويدافع عنه، ويعرف الخير ويحبه لنفسه، ويحبه للناس كذلك، الذي يتحمل مسؤولية في إصلاح الفاسد وتقويم المعوج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن صياغة مثل هذا الإنسان أمر شاق جداً، صعب حقاً، ثقيل وعسير، لكنه بالرغم من كل ذلك أمر مطلوب وممكن:
مطلوب لأن الفائدة المرجوة منه بعد تمامه عظيمة جداً، تعوّض كل الجهد المبذول، وتقدم محصولاً عظيم النفع للفرد وللجماعة، بل وللإنسانية كلها.
وممكن لأنّ مفتاحه موجود، وهو الإيمان، الإيمان الذكي البصير الجاد، المترفع عن السفاسف، المتوجه إلى الله عز وجل فيما يفعل، إنه هو المفتاح القادر على ذلك، ولقد حققه بالفعل في صورة جماعة بشرية متكاملة مثالية هي صورة المجتمع الإسلامي الأول، وفي صور فردية متألقة، تظل تظهر بين الحين والآخر، لتكون شواهد صدق على مقدرة الإيمان على تربية الرجال، وإعدادهم إعداداً مشرفاً في غاية التألق والسمو، والنفع والإيجابية.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق