الأحد، 26 يونيو 2022

حاجتي ليست كحاجتهم

حاجتي ليست كحاجتهم

     قدم وفد "تَجِيبُ" من اليمن إلى المدينة المنورة، فسُرَّ بهم رسول الله ﷺ وأكرم منزلتهم، وأمر بلالاً رضي الله عنه أن يحسن ضيافتهم، وجعلوا يسألون النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ويتعلمون منه، وحين جاؤوا إلى الرسول الكريم ﷺ يودعونه أجزل لهم في العطاء، ثم سألهم: هل بقي منكم أحد؟ قالوا: نعم غلام خلّفناه على رحلنا هو أحدثنا سناً، قال: أرسلوه إلينا. فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله ﷺ وطلب منه أن يقضي له حاجته، كما قضى حوائج إخوانه الآخرين في الوفد. فقال له رسول الله ﷺ: وما حاجتك؟ قال الغلام: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا قد قدموا راغبين في الإسلام، وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإني والله ما أقدمني من بلادي إلّا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي. فقال رسول الله ﷺ: اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه. ثم أمر له بمثل ما أمر به الرجل من أصحابه، فانطلق الوفد عائداً نحو اليمن.

     وفي السنة العاشرة من الهجرة وافى الوفد ثانيةً رسول الله ﷺ وهو في منى، فسألهم رسول الله ﷺ عن الغلام الذي تخلف عنهم هذه المرة فقال: ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟ قالوا: يا رسول الله، ما رأينا مثله قط، وما حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها، ولا التفت إليها.

     فقال الرسول الكريم ﷺ: الحمد لله، إني لأرجو أن يموت جميعاً. فقال رجل من الوفد: أوَ ليس يموت الرجل جميعاً يا رسول الله؟ فقال ﷺ مبيّناً أن مِن الناس مَن يموت مشتتاً موزعاً، تتشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا: فلعل أجله أنْ يدركه في بعض تلك الأودية فلا يبالي الله عز وجل في أيّها هلك. قالوا: فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال، وأزهده في الدنيا وأقنعه بما رزق الله.

     فلما توفي رسول الله ﷺ ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام في قومه فذكرهم الله والإسلام فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه يذكره ويسأل عنه حتى بلغه حاله، وما قام به فكتب يوصي به.

     هذه قصة نادرة لشاب كريم، عَمَر الإيمان قلبه، فلم يجعل همّه ما يشغل كثيراً من الناس، فيظلّون يعدون وراءه ويقطعون في ذلك زهرة أعمالهم، بل تعلقت همته بما عند الله عز وجل مما هو خير وأبقى، حين طلب حاجته من رسول الله ﷺ، كانت حاجته التي طلبها غير حوائج إخوانه الآخرين، بل غير حوائج أكثر الناس، كانت حاجة دينه قبل دنياه، وروحه قبل جسده، ونفسه قبل مادته، ومعناه قبل هيكله، وحقيقته قبل صورته، كانت حاجته أن يسأل رسولُ الله ﷺ له ربَّه عز وجل أن يغفر له ويرحمه، وأن يجعل غناه في قلبه.

     إنها حاجة كبيرة كريمة قرّت بها عينا رسول الله ﷺ، وأدرك عظمة هذا الغلام وسمو نفسه، وسارع يدعو له، وحين دارت الأيام وغاب الغلام، ولم يعد مرة ثانية مع الوفد لم ينسه رسول الله ﷺ بالرغم من نأي الدار وتطاول الزمن، لذلك سأل عنه سؤال الخبير العارف، فلما أجيب بما يُدخل السرور على القلب، قال عليه الصلاة والسلام: إني لأرجو أن يموت جميعاً.

     والناس يموتون على ما عاشوا عليه، فمن عاش جميعاً أي موحد العزيمة، مجتمع الغاية، ثابت الهدف، واضح الرؤية، غير مشتت ولا متوزع، مات كما عاش. ومن عاش مشتتاً موزعاً، متفرق الغاية، متعدد الهدف، كثير الهموم والأماني، مشتتاً إلى مزق كثيرة، وأوزاع متناثرة، وأجزاء شتى مات كما عاش. وشتان بين ميتة هذا وذاك، وشتان بين حياة هذا وذاك في الدنيا هذه قبل الموت.

     وما من ريب أنه نادر جداً بين الناس ذلك الذي يعيش لغاية واحدة كما عاش ذلك الغلام، ويجمع همومه في همٍّ واحد يحيا له، ويموت عليه، ويكدّ من أجله، وإنما يفعل ذلك المؤمن العميق الإيمان، النافذ البصيرة، الذي تطهّرت روحه وزَكَت وسمت، فجعل غايته رضوان الله عز وجل، حدد لنفسه هذا الهدف العظيم عن إدراك عميق لا عن نزوة عابرة، أو حالة عارضة، ثم طفق يتخذ وسائل تحقيق هذا الهدف، ويعمل على تطبيقها بقوة وعزم ومضاء، وقد هان عليه كل شيء في الحياة وهو يرنو إلى هدفه العظيم الجليل، ويقرأ قوله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لَا شَرِيكَ لَهُۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام:162-163]، وهذا هو الرجل الذي يعيش جميعاً ويموت جميعاً.

     هو الرجل الذي تعمقت فيه القناعة الإسلامية الراشدة، فحمته من الشره والطمع، واستروح نسمات الحياة الطيبة في الدنيا نفسها، وهي جزاء المؤمنين العاملين قبل أن ينتقلوا إلى الدار الآخرة. قال عز وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةًۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل:97]، وقد فسّر الإمام علي رضي الله عنه الحياة الطيبة بالقناعة، وما من ريب أن بين الحياة الطيبة وبين القناعة صلة وثقى، كل منهما تقود إلى الأخرى إن لم تكن هي هي بعينها بالتمام والكمال.

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة