مصعب بن عمير
هو نموذج من نماذج التضحية بالراحة والثروة، والارتفاع فوق مغريات الحياة الرخيّة الناعمة، وإيثار الحرمان والمشقة والبلاء والأذى في سبيل الله عز وجل. إنه الصحابي الشهيد مصعب بن عمير رضي الله عنه.
نشأ مصعب في الغنى، ورُبِّيَ في أحضان الرفاه والنعمة، بين أبوين يحبانه أعظم الحب، ويكسوانه أحسن اللباس، ويغذوانه أطيب الطعام، وينشران عليه أجنحة العطف والرعاية والحنان.
لكنّ الفتى المؤمن هجر هذا كله إلى حياة الخشونة والشدة والغربة والهجرة والجوع والتعب، رضي بمفارقة الأهل والوطن، ورغب عن الجاه والثروة، وفرّ بدينه مهاجراً إلى الحبشة، ثم إلى المدينة المنورة حتى مات في دار الهجرة شهيداً في غزوة أحد، فما وجد المسلمون له ثوباً يكفيه كفناً، وكل الذي وجدوه ثوب قصير، إذا غُطِّي رأسه بدت رجلاه، وإذا غُطِّيَت رجلاه ظهر رأسه.
روى ابن سعد عن أحد أقرباء مصعب قوله: كان مصعب فتى مكة شباباً وجمالاً ونسباً، وكان أبواه يحبّانه، وكانت أمه كثيرة المال، وكان أعطر أهل مكة، دخل على رسول الله ﷺ، دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة المكرمة فأسلم، فأخذه قومه فحبسوه، فلم يزل محبوساً حتى هاجر إلى الحبشة، ثم عاد مع المسلمين فإذا به قد تغيّرت حاله، وإذا به قد خشن وتبدّل.
وفي يوم أحُد ثبت مصعب رضي الله عنه ثبات الأبطال، وكان يحمل الراية بيده، وظل يصول ويجول، وظلت سيوف المشركين ورماحهم تنوشه من هنا وهناك حتى قُطِعت يده اليمنى، فخشي على اللواء أن يسقط، فسارع يحمله بيده اليسرى، فلما قُطِعت اليسرى كذلك، حنا عليها وأمسكها بعضديه حتى استشهد، وحين أراد المسلمون دفنه لم يجدوا ثوباً يكفيه فجعلوه مما يلي رأسه، وجعلوا على رجليه من نبات الإذخر.
ووقف رسول الله ﷺ على الفتى الشهيد فقال: «لقد رأيتك... بمكة وما بها أحدٌ أرَقّ حلة ولا أحسن لمَّة منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة».. وقرأ قول الله عز وجل: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾. [الأحزاب:23].
رحم الله الشهيد العظيم، وأجزل له الثواب والعطاء، وجمعنا به في مستقر رحمته.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق