البراء بن مالك.. البطل الشهيد
هو الصحابي العظيم، المجاهد البطل الشهيد البراء بن مالك رضي الله عنه، وإنه ليشق عليك أن تحيط بحياته المضيئة في وقت محدد ما لم تستشرف الآفاق المتفوّقة المؤمنة التي كان يعيش فيها ذلك الجيل الرباني الفريد. فمنذ دخل الإيمان قلبه وهب حياته لهذا الدين العظيم، فكانت سِفراً من أسفار البطولة والتضحية والإيمان، ولا غرابة في ذلك فقد كان واحداً من التلاميذ النجباء الأوفياء لمدرسة محمد ﷺ.
وإنه ليكفيك منه موقف فحسب!.. يجعل بمقدورك أن تتخيل الصورة كلها، وإنْ غابت عنك التفاصيل، هذا الموقف هو ما فعله البراء يوم اليمامة.
لقد وقف البراء رضي الله عنه في مكانه من الجيش المسلم الذي كان يقوده الصحابي القائد العظيم خالد بن الوليد رضي الله عنه ليقتلعَ شرور الرِّدَّة التي كان يتزعمها مسيلمة الكذاب عليه لعنة الله. وقف البراء وعيناه الثاقبتان تجوبان أرض المعركة في سرعة ونفاذ، وقد بدا فيهما عزم عجيب، وإرادة هائلة، ونزوع عميق جياش إلى شهادة كريمة في ذلك اليوم المشهود.
كانت عيناه تجوبان الميدان كله، كأنهما تبحثان عن أشدّ الأماكن خطورةَ وبأساً ليسارع إليه البطل، بحثاً عن ختام هانئ سعيد لحياة حافلة بالمكرمات، وأي ختام أهنأ وأسعد من الشهادة في سبيل الله!؟
وإذ بدأ القتال انطلق البراء كالسهم صوب غايته، وقد أحسّ أن رائحة الجنة في أنفه، فاستثار ذلك فيه كل القوة والحركة، وكل السرعة والنشاط، وكل البطولة والحميّة، فإذا بقوته تتضاعف، وإذا بنشاطه يزداد، وإذا به كالسيل الأتيِّ الدفّاق، فكان أن مضى يفتك بعصبة السوء، ويبلي في جهاده أعظم البلاء.
وحين اشتدت المعركة حدث خلل في صفوف المسلمين، وسرى فيهم شيء من الارتباك، وطفق قادة المسلمين وفرسانهم يجوبون الميدان يحثون على الصبر واحتمال العناء حتى النصر المأمول، وكان البراء رضي الله عنه ذا صوتٍ عالٍ جميل، فهتف به خالد بن الوليد: تكلَّمْ يا براء!.. وتكلمَ البراء، وتدفق صوته الجياش بكلمات قلائل، لكنها ذروة في الأداء والبيان، والبلاغة والإيجاز. لقد علا صوته يقول: "يا أهل المدينة!.. لا مدينة لكم اليوم، إنما هو الله والجنة".
إنه يُهيب بأهل المدينة المنورة أن ينسوا مدينتهم، ففي مثل هذا المشهد الصعب ينبغي ألا يشغل المجاهدون أنفسهم بشيء سوى انتزاع النصر، عليهم أن ينسوا الديار التي خرجوا منها، والأهل الذين ودّعوهم. حتى المدينة المنورة، عاصمة الإسلام، ومأرز الإيمان، ومثوى رسول الله ﷺ عليهم أن ينسوها الآن.
وسَرَتْ كلمات البراء كالتيار في أرواح المجاهدين، وعادت الصفوف المسلمة تتقدم من جديد، والمرتدون يتراجعون حتى دخلوا حديقة كبيرة، فلاذوا بها وأغلقوها عليهم.
وهنا يعلو صوت البراء من جديد يهتف: يا معشر المسلمين، احملوني وألقوني عليهم في الحديقة!.. ولم ينتظر البطل، فالوقت ثمين، والمعركة في أخطر مراحلها، والنصر قاب قوسين، وإنما هو ينتظر بعض المبادرات الشجاعة ليكون بإذن الله إلى جانب المسلمين.
واعتلى البراء الجدار، وألقى بنفسه داخل الحديقة، حيث جيش الردة، وفتح الباب، فدخل الجيش المسلم يستأصل عصبة الشر، وقُتِل مسيلمة، وهُزِمَ المرتدون.
عمل رائع من البراء أدّى إلى أحسن النتائج، لكنّ شيئاً واحداً فات البراء، إنه لم يُرزق الشهادة على الرغم من هذه المغامرة الجريئة، واستبان الناس صدق كلمة الصدِّيق رضي الله عنه: "اُطْلُبِ الموتَ تُوهَبْ لكَ الحياة".
لقد نال البراء في مغامرته تلك بضعاً وثمانين وساماً هي مجموع الكلوم والجراحات التي أصابته، أما الشهادة فقد ادخرت له ليفوز بها في يوم آخر، عظيم مشهود من أيام الإسلام الخالدة.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق