اتساع الرحمة عند المؤمن
تعظُم الرحمة عند المؤمن وتتسع، وتكبر دائرتها وتمتد، حتى لتشمل في عطائها الخيّر المبارك، ونتاجها الثرّ الكريم الناس جميعاً، ثم تتعداهم فإذا بها قد وصلت إلى الحيوان، فهذا الحيوان الأعجم الذي ليس له حول ولا طول، يرحمه المؤمن، ويتقي الله تعالى فيه، ويعلم أنه مسؤول عنه بين يدي خالقه، وقد ذكر الرسول الكريم ﷺ لصحابته الكرام أن امرأة سيئة لقيت كلباً استبدَّ به العطش، فدلَّت خُفها في البئر وسقته حتى ارتوى فغفر الله لها. وفي مقابل ذلك ذكر لهم أيضاً أن امرأة أخرى حبست هرة حتى ماتت، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فاستحقت بذلك العذاب.
وقد قال رجل للرسول الكريم ﷺ: إني لأرحم الشاة، فقال له: إنْ رحمتها رحمك الله. ورأى عمر رضي الله عنه رجلاً يسحب شاة برجلها ليذبحها فقال له: ويلك!.. قدها إلى الموت قوداً جميلاً.
ويروي المؤرخون أن عمرو بن العاص رضي الله عنه في فتح مصر، نزلت حمامة بفسطاطه أي خيمته، فاتخذت من أعلاه عشّاً، وحين أراد الرحيل رآها، فلم يشأ أن يهيجها بتقويضه، فتركه، وتكاثر العمران من حوله فكانت مدينة الفسطاط تلك التي نشأت في مكانها إكراماً ورحمة لحمامة حلّت ضيفة في فسطاط رجل كريم من تلاميذ مدرسة النبوة المطهرة.
ويروي ابن الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه نهى عن ركض الفرس إلّا لحاجة، وأنه كتب ينهى عن إلجام الدواب بلجام ثقيل، وينهى أن تنخس بمقرعة في أسفلها حديدة، وكتب إلى واليه بمصر: إنه بلغني أن بمصر إبلاً نقالات يحمل على البعير منها ألف رطل، فإذا أتاك كتابي هذا فلا أعرفن أنه يحمل على البعير أكثر من ستمئة رطل.
إنها رحمة عظيمة دافقة، هي أثر من آثار الإيمان بالله عز وجل، والدار الآخرة، ذلك الإيمان الذي يهذب النفوس، ويرقق القلوب، ويلين الأفئدة القاسية الجافية، هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان في الجاهلية معروفاً بالقسوة والشدة، يفجّر الإسلام في فؤاده أعظم ينابيع الرحمة والخير، فيرى نفسه بعد أن صار أميراً للمؤمنين مسؤولاً أمام الله عز وجل عن بغلة تعثر بشط الفرات، لِمَاذا لَمْ يُسَوِّ لها الطريق؟
ولقد كان من جملة الأوقاف الإسلامية؛ وقف خاص يُنفَق من ريعه على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب، استنقاذاً لها من عذاب الجوع، حتى تستريح بالموت أو الاقتناء.
وكان هناك وقف خاص لتطبيب الحيوانات المريضة، وآخر لرعي الحيوانات المسنة العاجزة، وكان في دمشق وقف للقطط تأكل فيه وتنام، فكان الناس يرون فيه مئات القطط السمينة التي يُقدم لها طعامها ولا تتحرك إلّا للرياضة والنزهة واللعب.
وكان من وظيفة المحتسب -وهي من أكرم الوظائف وأعظمها وأكثرها إشراقاً في حضارة الإسلام- أن يمنع الناس من تحميل الدواب فوق ما تطيق، أو تعذيبها وضربها في أثناء السير، فمن رآه يفعل ذلك أدّبه وعاقبه. وكان ينهى الناس أن يسوقوا دوابهم سوقاً شديداً تحت الأحمال، وينهاهم أن يضربوها ضرباً شديداً، وأن يوقفوها في الساحات العامة وعلى ظهورها أحمالها، وكان يراقبهم في علف الدابة وعليقها، ويطلب أن يكون موفوراً يحصل به الشبع ولا يكون منجوساً ولا نزراً. إن هذا كله يدل على ما في الأمة المسلمة من خلق للرحمة عظيم، هو بعض من غراس الإيمان.
ومن أطرف الأمثلة من ناحية، وأعمقها دلالة وإيحاء، ما نجده عند الصحابي العظيم أبي الدرداء إذ يقول لبعيره عند الموت: يا أيها البعير لا تخاصمني إلى ربك، فإني لم أكن أحملك فوق طاقتك، وما نجده عند صحابي آخر هو عدي بن حاتم الطائي الذي كان يفت الخبز للنمل، ويقول: إنهنّ جارات لنا ولهنّ علينا حق.
ومرة كان الإمام أبو إسحاق الشيرازي يمشي في طريق ومعه بعض أصحابه فعرض له كلب فزجره صاحبه، فنهاه الشيخ وقال له: أمَا علمت أن الطريق مشترك بيننا وبينه؟
إنها رحمة عظيمة تعلمتها الأمة المسلمة من رسولها الكريم ﷺ الذي كانت له مواقف في الرحمة عجيبة، منها أنه سمع مرة امرأة من الأنصار تلعن ناقة لها وهي تركبها فأنكر عليها ذلك وقال: خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة، وأُخِذ ما على الناقة، وتركت تمشي في الناس لا يعرض لها أحد.
إنها رحمة الإسلام تبلغ مدى واسعاً جداً، ولا عجب!.. فمطلوب من الأمة المسلمة أن تتفوق في كل شيء وتسبق، لتكون جديرة بقيادة العالم كله، والبشرية جمعاء، إلى دروب السعادة والخير في دنياها وأخراها.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق