أيهما أجود!؟
حين تحدثنا عن بعض المظاهر العملية للجود الإسلامي، والإنفاق في سبيل الله عز وجل، عرضنا في عجالة سريعة لأبي الدحداح وهو يجود ببستانه في سبيل الله عز وجل، ومثّلنا به للمستوى النفسي الرفيع، والتفوق الروحي الضخم الذي كان الجيل الإسلامي الأول عليه. على أن الإعجاب الحقيقي، والإكبار الضخم نلتقي بهما في موقف أم الدحداح كذلك، فإذا كان أبو الدحداح رجلاً كريماً جواداً فذلك كثير بين الرجال، ولكن أن يبلغ الجود بأم الدحداح أن تبارك عمل زوجها وتشجعه فهو ما لم نعتده بين النساء اللواتي يمتلكهن الخوف على مستقبلهن ومستقبل أولادهن، بسبب قلوبهن الرقيقة الضعيفة، الواجفة الوجلة المشفقة.
إن أبا الدحداح جادَ ببستانيه اللذين لا يملك سواهما، لكن الرسول الكريم ﷺ طلب منه أن يحتفظ بواحد منهما، فاختار الأحسن وجاد به، واحتفظ بالأدنى لنفسه وعياله، وعاد مسرعاً إلى حيث أم الدحداح وصغارها فوجدهم في أحسن البستانَين، أي الذي تبرع به فأخذ يقول مخاطباً زوجته:
هداكِ ربي سبــــل الرشـــاد إلى سبيل الخيـــر والســـداد
بِيـــني من الحــــائط بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التنــاد
أقرضته الله على اعتـــمادي بالطوع لا منّ ولا ارتــــداد
إلا رجاء الضِّعف في المعاد فـارتحـــلي بالنفس والأولاد
والبِرُّ لا شــــك فخيــــر زاد قــــدمه المرء إلى المعـــــاد
ترى أَبَكَتْ أم الدحداح إذ علمت أن زوجها جاد بواحد من بستانيه في سبيل الله؟ أتذمّرتْ لأنه جاد بالأحسن واحتفظ بالأدنى؟ أطَفِقَتْ تسأله عن الصغار ومستقبلهم وتخوّفه ما قد يلاقون من عنت ومشقة؟
إن هذه المرأة المسلمة حقاً، لم تفعل شيئاً من ذلك قط، بل سارعت تقول لزوجها: ربح بيعك، بارك الله لك فيما اشتريت!.. وأنشأتْ تقول:
بشّــــرك الله بخيــــرٍ وفــــرَحْ مثـــلك أدّى ما لديه ونصَـــحْ
قد متّــــع الله عيــــــالي ومنح بالعجوة السوداء والزهو البلح
والعبـــد يسـعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح
ما أروع جوابكِ يا أم الدحداح!، وما أكرم ما قابلتِ به زوجك الجواد! ألا بارك الله في الذي فعلتِ وجزاكِ خير الجزاء.
إن أم الدحداح لم تكتفِ بما فعلت، بل أقبلت على صبيانها تُخرِجُ ما في أفواههم من تمر وتنفض ما في أكمامهم، ذلك أنها شعرت أن البستان ما عاد لزوجها، فلا يحل لها أن تأكل منه، لا هي ولا أولادها، ثم مضت بهم نحو البستان الآخر.
موقف الرجل عظيم، وموقف المرأة أعظم، وما أجمل الجزاء متمثلاً بقول الرسول الكريم ﷺ: «كم من عذق رداح، ودار فياح، لأبي الدحداح»! أي في الجنة. والحديث صحيح على شرط مسلم، أخرجه أحمد (3/146).
إن صورة أم الدحداح هي صورة المرأة المسلمة حقاً، التي تغلغل فيها الإيمان حتى أعماقها، فعرفت معنى الحياة، وعرفت وظيفة المال، وأدركت أن الهدف الأكبر للمسلم هو رضوان الله عز وجل. وهي صورة مشرقة وضّاءة، منيرة لألاءة، كثيراً ما نلتقي بمثيلات لها كريمات، مثل تلك المرأة المسلمة التي قيل لها: إن زوجها الذي يعولها قد استشهد فهتفت بهذه القولة النادرة التي تنتظر بيان قلم مؤمن بارع ليبدع فيها ويجود، قالت: "لقد عرفتُه أكّالاً، ولم أعرفه رزّاقاً، ولئن ذهب الأكّال لقد بقي الرزاق"، أيّ كلمة هذه الكلمة؟ أيّ دلالات تحمل؟ بأيّ معان نبيلة، وأحاسيسه ضخمة، ومشاعر متفوقة تجيش وتمتلئ؟
إنها حقاً لأكبر من التعليق، خاصة في مثل هذا المجال القصير، وإني لأقدمها هدية لأدباء العربية نموذجاً لما يمكن استلهامه من كنوز التراث، بدل أن يولّوا وجوههم قِبَلَ الشرق أو الغرب، مستلهمين أساطير اليونان القدماء، التي هي غريبة عن حسّنا من ناحية، والتي هي ضلالات وخرافات وأكاذيب من ناحية أخرى، كأسطورة بروميثيوس، أو سيزيف، أو أوديب، أو هرقل مثلاً. ولا تقلّ رموز أخرى كالصلب والفداء والخطيئة وما إلى ذلك غرابةً عن حسّنا من ناحية، وبُعداً عن الصواب والحق والصدق من ناحية أخرى، عن رموز اليونان القدماء، ومع ذلك لا تخطئ أن تجدها لدى هذا وذاك من المتأدبين والأدباء الذين يتوهمون أنهم بذلك يُضفون على أنفسهم طابع الجِدة والابتكار، ناسين أن كل أدب ليست فيه أصالة، وليست فيه اهتمامات كبيرة مصيره إلى الفناء العاجل وإن طُبِعَ على ورق أنيق، وحرف جميل، وغلاف جذاب فإن القانون الذي يحكمه يجعله يمضي بسرعة بالغة من المكتبة إلى التلف، ومن المطبعة إلى المقبرة.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق