جهاد سعيد بن المسيب
إن كل جهد يبذله المسلم، مادياً كان أم أدبياً، بدنياً كان أم نفسياً، في سبيل الله عز وجل، وابتغاء رضوانه، هو محفوظ له مضبوط، محسوب مقيد في دفتر حسناته عند الله تعالى مهما كان حجمه ضئيلاً، لا تضيع منه مثقال ذرة قط، حتى الخطوة يمشيها، حتى الشوكة يشاكها، حتى الدرهم ينفقه، حتى الإحساس بالجوع والعطش والتعب. يقول جل جلاله: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [التوبة:121]. وإذن فلا عجب قط أن نرى ديننا الإسلامي العظيم يقدم لنا نماذج رائعة مشرقة للتضحية والبذل، والجهاد والكفاح، وبأعداد كبيرة، تقدِّمُ ما تمتلك من نفس ومال في سبيل الله عز وجل وهي قريرة العين، طيبة النفس، سعيدة هانئة.
إن كل الذي يصيب المسلم، في المال والنفس، في البدن والأهل، في كل شيء، هو في ميزانه عند الله عز وجل إن خلصت منه النية وصحّت، والله عز وجل سيجزيه عن ذلك خير الجزاء ويعوّضه أحسن العوض، قال جل شأنه: ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 272]، وحين يبلغ الجود نهايته الأخيرة، ويصل مآله الختامي فيكون في أعظم صوره بذلاً وتفانياً، نصل إلى مرحلة الجود بالنفس في سبيل الله عز وجل، حيث يجزل الله تعالى العطاء للشهداء ويمنحهم من فضله العظيم، خيراً مما يتنافس الناس عليه ويجمعونه، قال عزّ من قائل: ﴿ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [آل عمران:157]، وقال جل شأنه: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ* وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ [محمد: 4-6]، وقال تعالى ينهانا عن النظر إلى الشهداء على أنهم أموات: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 169-170]، إنهم أحياء عند الله عز وجل، يمارسون نوعاً من الحياة الكريمة، الله تعالى يعلمها وحده، فيها الفرح والاستبشار، وفيها الرحمة والمغفرة، وفيها حُسن القبول، عند ربٍّ عظيمٍ عظيم، كريمٍ كريم.
وفي الجماعة الإسلامية الأولى، تلك التي أتقن تربيتها رسول الله ﷺ، كان بحسب المرء أن يقرأ آية من كتاب الله عز وجل تدعوه إلى الإنفاق والجهاد، فإذا هو يسارع إلى تنفيذها، ولا يبخل بشيء قط، بل يقدم النفس والنفيس ابتغاء رضوان الله جل شأنه.
قرأ أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه سورة براءة حتى بلغ هذه الآية: ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 41]، فقال: خفافاً وثقالاً، شباناً وكهولاً، ما سمع الله عذر أحد، وقال لبنيه: يا بَنِيَّ جهزوني جهزوني، يعني للجهاد، فقال بنوه: يرحمك الله، قد غزوتَ مع النبي ﷺ حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، قال: لا.. جهزوني، فجهزوه بجهاز الحرب، فغزا في البحر، فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها رضي الله عنه.
وخرج سعيد بن المسيب إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل، فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثّرت السواد، وحفظت المتاع.
ورأى بعضهم في غزوات الشام رجلاً وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له: يا عم إن الله قد عذرك، فقال: يا ابن أخي قد أُمِرنا بالنفير خفافاً وثقالاً.
ولقد رُوِيَ أنه في بعض الغزوات كان الأب والابن يتسابقان إلى الجهاد فيقترعان فيما بينهما، فتكون القرعة للولد، فيقول له الوالد: آثرني يا بني، أنا أبوك، فيقول الولد: إنها الجنة يا أبتِ، ولو كان شيء غيرها لآثرتك والله.
وقصة عمرو بن الجموح يوم أحُد معروفة مشهورة، كان إصراره شديداً، وخرج على الرغم من عرجه الشديد ومعارضة بنيه له، ففاز بالشهادة، فقال ﷺ: «إنّ منكم يا معشر الأنصار مَنْ لو أقسم على الله لأبره، ومنهم عمرو بن الجموح».
إن الحسّ الإسلامي الصادق يظل جياشاً متحركاً، يتفجر في فؤاد المسلم بأنبل معاني الإيثار والتفاني، والجود والسخاء، والشجاعة والإقدام، فيجعله دائم البحث عن رضوان الله تعالى عن طريق مال ينفقه، أو جهاد يسارع إليه، مثله كمثل شرطة النجدة، أو رجل المطافئ، يقف على الاستعداد التام للمسارعة العجلى صوب أي تحرك يرى فيه رضوان الله جل جلاله.
****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق