الخميس، 30 يونيو 2022

لا يفتي الناسَ إلا عطاءُ

لا يفتي الناسَ إلا عطاءُ

     كان الخليفة الأموي العظيم، عبد الملك بن مروان يأمر المنادي في موسم الحج أن لا يفتي الناسَ إلا عطاءُ بن أبي رباح، إمام مكة، وعالمها وفقيهها، ترى كيف كان عطاء هذا؟

     كان هذا الرجل قد جعلته حضارة الإسلام، ذاتُ القِيَم والمبادئ المشرقة السامية المتفوقة؛ إماماً يرجعُ إليه الناس في الفتوى، ومدرسةً يتخرج منها الآلاف من طلابه، وهو عندهم محل الإكبار والحب والتقدير، والولاء العميق الصادق، الصادرِ عن حسٍّ رهيف، وذوقٍ سامٍ مُحلِّق، وإيمانٍ مكينٍ بمبادئ الإسلام وقيمه، وتصوراته وموازينه.

     هذه الحادثة التاريخية النادرة قد مرّت بي من قبل، منذ زمن لا أضبطه، فما هي بجديدة عليّ، لكني الآن، إذ أحاول التوقفَ عندها، يمتلكني شعورٌ هائلٌ بالإعجاب والإكبار، وإحساسٌ بضخامة العبر والدلالات في هذه الحادثة العجيبة، التي ما أحسب أن لها مثيلاً قط، في حضارات الآخرين.

     تأمّلْ هذه الحادثة، وأَتِحْ لنفسك بعض الوقت للغوص في معانيها وكنوز دلالاتها فسوف تخرج بعطاءٍ ثَرٍّ خصيب. فأميرُ المؤمنين نفسُه الذي كان يحكم رقعةً شاسعة من الأرض ما بين حدود الصين شرقاً، وحدود فرنسا غرباً من جهة الأندلس، يأمر أن تكون الفتوى عند رجل واحد فقط، هو عطاء بن أبي رباح.

     وإنه في مقاييس الحضارات الجاهلية، التي تنأى عن هدي الإيمان، لا يمكن لمثل عطاء أن يتقدم قط، فإن صفةً واحدةً فحسب من صفاته الجسدية كفيلة بإسقاطه في هاتيك المقاييس الضالة المتخلّفة؛ فكيف بعدد من الصفات الجسدية مما تهزأ به هاتيك المقاييس وتسخر، يجتمعُ كلُّه في شخص الرجل؟!

     إن لون عطاء في غير الحضارة الإسلامية كفيل بأن يحط من شأنه مهما كان نبوغُه وذكاؤُه، وجدُّه واجتهاده، وتفانيه وإخلاصه، فقد كان الرجل أسود؛ وغيرُ خافٍ على المرء ما يسبِّبُه سواد اللون للإنسان في الحضارات الجاهلية، المتخلِّفة في تقدير الإنسان ورعايته. وهذا الذي قلناه عن لون عطاء؛ يُقال كذلك عن صفاته الأخرى التي وجدناها كما حدّثنا التاريخ قد اجتمعت فيه لتصنعَ منه شخصيةً غريبة من حيث المظهرُ بحق.

     لكأنّ اجتماع هذه الصفات في هذا الرجل العظيم سرٌّ إلهي كبير، يريد أن يجلو لنا حقيقةً من أكبر حقائق هذا الدين، حقيقةَ ميزان التقوى والعمل الصالح مقياساً للتفاضل، ومعياراً للتمايز، لذلك جاءت شخصية عطاء تعبيراً فريداً عن هذا السر العجيب، ومظهراً رائعاً لهاتيك الحقيقة الكبرى، فقد كان عظيمَ التفوق، شديدَ السبق، رائعَ التقدم في ميدان الحضارة الإسلامية ومعاييرها، فارتفع إلى فوق، وصعد القمة، واحتل مكانه في الذروة العالية، على الرغم من كل صفاته الجسدية الأخرى.

     إن الفارق الشاسع الواسع الممتد الرحيب، بين المكان الذي منحه الإسلام لعطاء، مرجعاً وحيداً للفتيا في موسم الحج حيث مؤتمرُ المسلمين السنوي الكبير، وأستاذاً لآلاف الطلبة الذين يحيطونه بالحب والمودة والإعزاز، ويجلسون منه مجلسَ التابع من المتبوع، والتلميذ من الأستاذ، ومتربعاً على أعلى أمكنة التشريف والتقدير، وبين المكان الذي يحتله لو فرض أنه كان في ظلِّ حضارة غير الحضارة الإسلامية.

     إن الفارق بين مكان عطاء في الإسلام ومكانه في سواه، هو الفارقُ بين الإسلام الذي يعلو ويطيب، ويزكو ويسمو، ويشرق ويتلألأ، ويكرم الإنسان لأنه إنسان فيه نفخةٌ كريمةٌ من ربٍّ كريم، وبينَ الجاهلية –وهي كل ما سوى الإسلام– التي تتخبطُ وتظلم، وتعتسفُ وتجور، وتنحطُّ وتتخلف.

     إنه فارقٌ هائلٌ كبير، ولا بدعَ في ذلك، فإنه الفارقُ بين ما يصنعه الله عز وجل، وبين ما يصنعه البشر. وإنه لفارقٌ جِدُّ كبير، فيه من الضخامة، ما في المسافة بينَ الخالق والمخلوق من بونٍ ضخم، عجيبٍ رهيب.

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة