الخميس، 30 يونيو 2022

عروة بن الزبير الفقيه الصابر

عروة بن الزبير الفقيه الصابر

     في حياة التابعي الفقيه العظيم عروة بن الزبير رضي الله عنهما، نموذج حي متفرّد لمقدرة الإيمان الهائلة على الارتفاع بالرجال، وصياغتهم صياغة متفرّدة متفوقة ليس لها نظير قط، حيث يرتفع الإيمان بهم ويسمو، ويمنحهم من البطولة والرجولة والعظمة، ومن الإيجابية العملية، والواقعية البنّاءة، زاداً في غاية العظمة والغنى، والعمق والقوة.

     إنك لا تخطئ أن تلمس في عروة نموذج ذلك، بحيث يبدو أسوة صالحة، وقدوة محلّقة، ومثلاً كريماً للعبد المؤمن، الشاكر الراضي، الصابر المحتسب، المقدّر لنعم الله عز وجل، المبصر من الحياة جميع جوانبها.

     رووا أن الداء استفحل في رجله، فقرر الأطباء أن تُقطع حتى لا يسري إلى ساقه كلها ثم إلى فخذه، فطابت نفسه بقطعها، وعرضوا عليه أن يشرب شيئاً قبل العملية ليغيب عنه عقله، فيكون هذا الشراب بمثابة المخدّر، فما يشعر بالألم، فقال المؤمن الصابر العظيم: ما ظننت أن أحداً يؤمن بالله، يشرب شيئاً يغيّب عقله حتى لا يعرف ربه عز وجل، ولكنْ هلموا فاقطعوها!.. فنُشِرَت ساقه بالمنشار وهو ساكت صامت لا يُعرَف عنه أنه أَنَّ أو اشتكى، فلما فرغوا من ذلك صبّوا عليها الزيت فتعاظم الألم عليه وغاب عن وعيه.

     ويشاء الله عز وجل، أن يزيد من ابتلاء هذا العبد الصالح، وإنما يُبتلى المؤمن على قدر إيمانه، ففي الليلة التي قُطِعت فيها رجله سقط ولد له، وكان أحبَّ أولاده إليه، من السطح فمات، فدخلوا على عروة يعزّونه فيه، فقال: اللهم لك الحمد كانوا سبعة فأخذتَ واحداً وأبقيْتَ ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذتَ واحداً وأبقيْتَ ثلاثة، فإن كنتَ قد أخذت فلقد أعطيت، ولئن كنت قد ابتَليْتَ فلقد عافيت!.

     وهكذا كان الرجل عظيماً بحق، إذ قُطِعت ساقه فما اشتكى ولا أنَّ ولا توجّع، وإذ مات في الليلة نفسها أحبُّ أبنائه إليه فإذا بلسانه يلهج بالشكر والثناء، لا البكاء والشكوى، ولا التضجّر والتذمّر.

     إن التابعي العظيم قد ارتفع به إيمانه وسما، فطهّر روحه، وزكّى سريرته، وأزال الغشاوة عن بصيرته، وجعل تقديره سليماً قويماً، وإدراكه للصورة والموقف أتمَّ وأكمل، فإذا به يرى في الساق التي قُطِعت نعماً كبيرة إلى جوارها، هي ثلاثة أطراف بقيت سليمة، فلئن كان قد خسر الربع فقد فاز بالأرباع الثلاثة، وإذا به يرى في الولد الذي سقط فمات نعماً أخرى كبيرة إلى جواره، تتمثل في ستة من الإخوة ظلوا بين يديه سالمين، فلئن كان قد خسر واحداً فقد فاز بستة آخرين.

     إنه الأفق السامي الكريم، المنير المشرّف، الذي يرفع الإيمان أتباعه إليه، فما يعودون جماعة تذمرٍ وتشكٍّ، وتشاؤم وسوداوية، لا يبصرون من الحياة إلا جانباً واحداً هو جانبها الأسود. لا، فهم يرون في الحياة جانبيها معاً، الأسود والأبيض، فضلاً عن أنهم يتلمّسون في الأسود حكمةً ربما كانت خفيّة، وثواباً هم به موقنون.

     إنه الإيمان يحررهم من السلبية، وينقذهم من التشاؤم والسوداوية، وينقلهم بعد ذلك نقلة واسعة، إذ يمنحهم قوة ضخمة، قوة معنوية كبيرة، فإذا بهم يرون من الحياة جوانب كثيرة من النعم والخير لم تسلب منهم، إلى جوار ما نُكِبوا به، وإذا بهم يحتسبون ما نُكِبوا به عند خالقهم عز وجل، ويصبرون ويحتملون، فيكسبون في دنياهم بذلك راحة النفس، وهدوء البال، وطمأنينة الأعصاب والجوارح والحنايا، فضلاً عن أملٍ لهم، واسعٍ كريم في ثواب الله عز وجل، يؤملون الفوز به يوم القيامة.

     وهذا كله، من شأنه أن يجعل المؤمن ثابتاً إزاء الشدائد التي تعرض للناس في حياتهم، فلا يضطرب ولا يجزع، ولا يستبد به القلق واليأس والقنوط إن أصابه شيء منها، فهي إرادة الله تعالى، الغالبة النافذة، وهي امتحان وابتلاء واختبار.

     إن المصيبة في الدنيا ينبغي أن تهون ما دام دين المرء سليماً من كل ما ينتقص منه، ثم إن البلاء يتفاوت، وما من مصيبة إلا هناك ما هو أعظم منها، وقديماً قالوا: بعض الشر أهون من بعض، وبلاء أخفّ من بلاء، ومن نظر إلى بلوى غيره هانت عليه بلواه.

     وينظر المؤمن بعين بصيرته فيحمد الله تعالى على أن مصيبته دفعت ما كان يمكن أن يحدث من بلاء أكبر، ويحمده كذلك على ما بقي بين يديه من خير كبير، ونعم وافرة، فهو ينظر إلى البلاء المتوقع إلى جانب نظرته إلى البلاء النازل، وهو ينظر إلى النعمة الموجودة إلى جانب نظرته إلى النعمة المفقودة، وهذا كله يُدخِلُ على نفسه كثيراً من الارتياح والرضا، فالبلاء المتوقع كثير وقد صُرف عنه، والنعم الموجودة كثيرة وقد بقيت بين يديه.

     وهكذا يعيش المؤمن في بستان إيمانه الوارف، في خير كبير، وعطاء متجدد، لا يخطئ أن يلمسه، ويسعد به في كل حين، وعلى مختلف الظروف.

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة