حب الشهادة عند المسلمين
لقد كان حُب الموت في سبيل الله، وسلوكُ السبيلِ المؤدية إلى ذلك سبباً ضخماً من أسباب نصرِ الزحوف الإسلامية في مسيرتها الكبرى من حدود الصين إلى جبال الأندلس، وعاملاً نفسياً ذا أثرٍ مادي ملموس، بحيث تحتلُّ قيمتُه مكانةً كبيرة ليست لكثير من العوامل الظاهرة الأخرى من عددٍ وعُدَّة، وموقعٍ ورجال.
إنها صنعةٌ برَّزَ فيها المسلمون وسبقوا، وتألّقوا وارتفعوا، فإذا بهم في السماء كرامٌ مقبولون، بررة أتقياء، وإذا هم في الأرض سادةٌ غالبون، ظاهرون حاكمون.
ولا تخطئُ أن تجدَ في التاريخ الإسلامي صوراً في غاية العجبِ والدهشة، هي في حقيقتها مظاهرُ كريمةٌ لحبِّ الموت والتعلق به، وإتقانِ صناعته واكتسابِ مهارته. ولعله من أجل ذلك بوسعنا أن نلمسَ في التاريخ الإسلامي وحدَه هوايةً تتصلُ بهذا المضمار ليس لها مثيل، وحقاً إنها لَموضعُ غرابةٍ بالغة جداً، لولا أنها موصولةُ العرى، وثيقة الوشائج بالذي نتحدث عنه من حبِّ الموتِ وإتقانِ فنِّه.
هذه الهواية، هي هوايةُ جمعِ غبارِ المعارك، وهي أن يعمدَ الرجلُ إلى نَفْضِ ثيابه بعدَ عودتهِ من المعركة وجَمْعِ ما يكون فيها من غبار، وحِفْظِه في مكانٍ أمين، حتى يضيف إليه ما يجمعُه من غبارِ معركةٍ أخرى وهكذا.
نلتقي بهذه الهواية العجيبة عند سيف الدولة الحمداني الذي اجتمع من غبارِ معاركه ما يكفي لصناعة لَبِنَةٍ صغيرة أوصى أن توضعَ تحتَ رأسه في قبره لتكون شاهداً له عند ربّه عز وجل. ونلتقي بها عند البطل الأندلسي المشهور المنصور بن أبي عامر الذي خاض أكثر من خمسين معركة لم تنكسرْ له فيها رايةٌ قط.
شوقٌ نفسي عجيب للموت، على أن يكونَ شهادةً في سبيل الله عز وجل كان يمتلك المسلمين الذين تعمّق الإيمانُ وجدانَهم، فترى الواحدَ منهم يحذرُ ميتةَ الفراش أشدَّ الحذر، ويشجعُ نفسَه على الموت ويصبِّرها عليه إذا لحقها الخوف، فهذا قَطَرِيُّ بن الفُجاءة يخاطب نفسه التي طارت شعاعاً، ويُهِيبُ بها أن تثبت:
أقـــولُ لها وقد طارتْ شعــــاعاً من الأبطـــالِ ويحَكِ لنْ تُراعي
فإنــــكِ لو ســألتِ بقـــــــاءَ يومٍ على الأجلِ الذي لكِ لنْ تُطاعي
فصبراً في مجـال الموت صبراً فما نَيْـــــلُ الخلودِ بمســـــتطاعِ
سبيلُ الموتِ غــــــــايةُ كلِّ حيٍّ فداعيــــــه لأهلِ الأرض داعي
وهذا هو أبو دُجانةَ يحملُ سيفَ رسول الله ﷺ يوم أحُد ليقاتلَ به قتالاً يليق بما قطعه على نفسه من عهد حين سارع يأخذه بحقه، فلما سئل عن حقه قال: أضربُ به حتى ينحني، ومضى قد عصبَ رأسَه بعصابة حمراء، يقاتل قتالاً أشدَّ ما يكون القتال وأضرى، وهو القائل يوم أحُد، ولقد صدق فيما قال:
أنا الذي عاهَـــــــدني خليلي ونحن بالسَّــفْحِ لـدى النخيلِ
ألّا أقــــوم الدهرَ في الكَيول أضربْ بسيفِ اللهِ والرسولِ
إن صناعة فنِّ الموت حظٌّ وافر، ونصيبٌ كبير، وهي سبيلُ الأمة إلى ما تؤمّل من نهوضٍ كريم، وغدٍ مشرقٍ لائق، وها هو ذا شوقي يقول:
بـــلادٌ ماتَ فتيتُـــــها لتحيــــــا وزالوا دونَ قومِهــــــمُ ليَـــبْقوا
ومَنْ يْسقي ويشربُ بالمنـــــايا إذا الأحرارُ لم يُسْقَوا ويَسقُوا؟!
ولا يَبْني الممالكَ كالضحـــــايا ولا يُدْني الحقــــــوقَ ولا يُحِقُّ
ففي القتــــلى لأجيــــــالٍ حياةٌ وفي الأســرى فدىً لهمُ وعِتْقُ
وللحريةِ الحــــمراءِ بــــــــابٌ بــكلِّ يـــدٍ مضـــــرَّجةٍ يُــــدَقُّ
إننا اليوم، أمة مبتلاة، تنوشها ذئاب الغدر والحقد من كل ناحية، وإذا كان هذا يلزمنا بأن نكون على أعلى حالات الوعي والحذر والترقب، ويهيب بنا أن نستخرج أقصى طاقاتنا لمواجهة الموقف الصعب والتغلب عليه، فإن في طليعة ذلك كله أن نعي ونلتزم بدقة القانون الرباني في الهزيمة والنصر الذي لا يحيد ولا يتخلف.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق