الأحد، 26 يونيو 2022

الشهادة والشهداء

الشهادة والشهداء

     لا يخطئ المرء أن يلمح في ثنايا تراثنا الإسلامي، إنْ على مستوى النصوص والمبادئ النظرية، وإن على مستوى التطبيق العملي ما كان لإتقانِ صناعة الموتِ والبراعة فيها من حفزٍ إيجابي كريم للغلَبةِ والظهور، والمجدِ والسلطان في الدنيا، فضلاً عن أملِ الفوز بجنة الله عز وجل ونعيمها الخالد في الآخرة.

     فالجيل الرباني الفريد الذي ربّاه رسول الله ﷺ، والذي كان الترجمةَ العمليةَ لمبادئ الإسلام، قد حقق انتصاراتٍ مذهلة، وأمجاداً ضخمة، وصنع تاريخاً في غاية العظمة والتفوق، ما يزال يحارُ في تعليله كل مَنْ لا يرجع به إلى حقيقة الإيمان الكبيرة.

     إنَّ هذا الجيل كان عظيمَ التفوق في فنِّ الموت، بارعاً في هذه الصناعة الفريدة الغريبة، وإن هذا التفوقَ والبراعة كانا وراءَ حركتِه الضخمة الكبيرة في الأرض، دفعاً وحفزاً وقيادة. وإنك حين تمضي تتبعُ أخبارَه في هذا الصدد يُعجِزك جمعُها، فهي من الكثرة والانتشار والاتساع بحيث تؤودُ طاقةَ المرء على متابعتها، مما يدلُّ على أنَّ حوافزَها الكريمة التي كانت تقفُ وراءَها عظيمةُ الرسوخ، شديدةُ التمكن في ذلك الجيلِ الكريم.

     هذا هو عميرُ بن الحمام رضي الله عنه يقف في الصف المسلم يوم بدر يسمع تشجيع رسول الله ﷺ لكتيبةِ الإسلام الأولى، ويبشرها بالجنة جزاءَ كلِّ مخلصٍ يستشهدُ محتسباً صابراً، مقبلاً غير مدبر، فتظهرُ براعتُه في صناعة الموت، ويُلقي بتمراتٍ كان يأكلها وهو يقول: إنها لحياة طويلة أن أصبرَ حتى آكلَ هذه التمرات، أفَما بيني وبين الجنة إلّا أن يقتلَني هؤلاء؟! ويشيرُ إلى المشركين، ثم يشتدُّ نحو المعركة يصولُ فيها ويجول وهو ينشد:

ركضـــاً إلى الله بغيـــرِ زادِ
 إلّا التــقى وعملِ المعـــــادِ
والصبرِ في الله على الجهادِ
 وكلُّ زادٍ عُرْضَةُ النفــــــادِ
سوى التقى والبرِّ والرشــادِ

     ويظل في صِيالِه حتى يستشهد ويفوز.

     وهذا عمير بن أبي وقاص، أخو البطل المشهور سعد بن أبي وقاص، يحاول الاختفاء وراء أخيه قبيل معركة بدر حين أخذ الرسول ﷺ يستعرضُ جيشَه، خوفاً من أن يُرَدَّ ويُمْنَعَ من الخروج نظراً لصغرِ سنه، وبالفعل رآه الرسول الكريم ﷺ ومنعه فبكى. يا للروعة! بكى.. لا لأنه أُخْرِجَ قَسْراً إلى الجهاد، بل لأنه مُنِعَ من ذلك، ثم استحال بكاؤهُ إلى فرحٍ عميق حين جاءه السماحُ من الرسول ﷺ بالخروجِ مع الجيش، لقد خرجَ يستبقُ إلى الموت ويشتدُّ نحوَه، وكان من الصِغَرِ بحيث عَقَدَ له أخوه سعد حمائلَ سيفه، لكنه كان من عظيمِ إدراكه لحقيقة الموت، وتفوقه في فنّه بحيث اختاره الله عز وجل شهيدَ فداءٍ وتضحيةٍ وبطولة، يعطِّرها القرآن الكريم، ويطيِّبها الإسلامُ الخالد.

     وما نبأُ الغلامين الصغيرين، رافعٍ وسَمُرَة عنا ببعيد يوم أحُد، لقد أُعِيدا من مكانهما في الجيشِ لصغرِ سِنّهما، فأثبتَ أحدهما مقدرتَه على الرمي بالسهام فسُمِحَ له، وعندها سارع الثاني يعلن أنه قادرٌ على مصارعةِ صاحبه والتفوقِ عليه، وحين ثبت هذا بالدليل، كان السماحُ لهما معاً من الرسول الكريم ﷺ.

     أَلَا إنه الجيلُ الفذ الذي ما شهدت الشمسُ أشرفَ وأكرم منه، الذي تَعَلَّمَ أن الموتَ قدرٌ غالبٌ نافذ ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ [النساء:78]، وتعلَّم كذلك أن المِيتةَ في سبيل الله تختلفُ عن كلِّ ميتةٍ أخرى ﴿ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ* وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: 157-158]. إن الآية الكريمة ميَّزت بينَ النوعين من الموت، بحيث تظل آمال المسلم الحق مشدودةً أبداً إلى النوعِ الأعلى الأكرم، موتِ الشهادة في سبيل الله عز وجل.

     وإن الإعجاب لَيَشُدُّكَ شداً مُحكماً، ويستأثر بانتباهك كلِّه ويستفرغُه ويستبدُّ به، وأنت ترنو ببصرك إلى ما كان يفعلُه المسلمون في الواقع العملي بصددِ النظرة إلى الموت ومعايشتِه.

     هذا عَمْرُو بن الجموح يوم أحُد، وقد كان في ساقه عَرَجٌ شديد يحاولُ أبناؤه ثَنْيَهُ عن القتال فيأبى، ويذهب إلى رسول الله ﷺ قائلاً: يا رسول الله، إن بَنِيَّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك إلى الجهاد، ووالله إني لأرجو أن أَخْطِرَ بعرجتي هذه في الجنة! وحين يأذن له النبي الكريم ﷺ بالخروج تمتلكه فرحةٌ عميقة، ويدعو بصدق وحرارة: اللهم ارزقني الشهادة ولا تَرُدَّني إلى أهلي، ثم يفوز بما يؤمل.

     وهذا عبد الله بن جحش رضي الله عنه يخرج في يوم أحُد وليس في أمانيه سوى رجاءٍ كبير أن يرويَ بدمِه الطهور ثرى الجبلِ الكريم، ويثوي عند سفحه شهيدَ صدقٍ ومَضاءٍ وتضحية، وكان رجاؤه يتعاظم، فإذا به يؤملُ أن يُمَثَّلَ به بعدَ استشهاده؛ أن يُجْدَعَ أنفُه، وتُقْطَعَ أذنُه، وتَعْبَثَ بوجهه الكريم أيدي الحاقدين الكافرين، ليزداد أجره وثوابه، وتعلو درجتُه عند الله عز وجل.

     لقد دعا قبلَ المعركة فقال: اللهم ارزقْني غداً رجلاً شديداً بأسُه، فيقتلُني، ثم يأخذني فيجدعُ أنفي وأذني، فإذا لقيتكَ قلتَ: يا عبد الله فيمَ جُدِعَ أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت! وحين دارت المعركة تحقق أمله العظيم فاستشهد على يد أبي الحكم بن الأخنس، ومَثَّلَ به المشركون.

     إن هذا الجيلَ العظيم ما كان يفعل ذلك هرباً من الحياة، وفراراً منها، بل حملاً لأمانة الإسلام، ونهوضاً بمستلزمات الرسالة، وقياماً بواجبات المسؤولية، وتَوْقاً إلى جنة الله عز وجل وعظيم رضاه. ومن أجل ذلك كان يستبق إلى الموت ولا يخافه ولا يهابه، وكيف يخافه ويهابه وهو يؤملُ أنْ يكونَ سببَ الانتقال إلى دار السعادة الخالدة الأبدية؟!

     إن فهمَ الجيلِ الرباني للموت بشكلٍ صحيح من خلالِ التصور الإسلامي الكريم، كان سبباً في تقدمِ الحياة، واكتسابِ الخيرِ مواقعَه فيها، فكان كلُّ مَنْ يجودُ بدمِه إنما يصنعُ الحياةَ بما يفعل، فهو إذ يودعُها ويخرجُ منها بلا رجعة، يهيئُ السبيلَ لأمتِه أن تفوزَ في كلِّ الميادين الأخرى كما فازت في فنِّ الموت.

     واليوم ونحن نطالبُ أمتَنا بالتقدمِ في كل الميادين لا ننسى قط أن نطالبَها بالتقدم في فن الموت والسَّبْقِ فيه، لأن ذلك سياجُها الذي يحوطُ إنجازاتِها الأخرى في الحياة أن تضيعَ أو يسطوَ عليها الآخرون، ولأنه من قبل ذلك سبيلٌ لرضوان الله عز وجل حينَ يتمُّ وفقَ شروط الإيمان، ورضى الله تعالى أكبرُ غايةٍ للمسلم في الحياة.

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة