السيف الذي لم يغمد
يحاول الإسلام في توجيهاته الكريمة جميعاً أن يشدَّ بصرَ الإنسان صوبَ الآخرة لأنها الدار الخالدة الباقية، فالفوز فيها هو الفوز الحقيقي الذي ليس كمثله فوز قط، ومن أجل ذلك يهيب به أن ينفقَ أيامه في الدنيا في كلِّ سبيلٍ خيِّر يجعله من أهل الفوز في الآخرة، ومن أجل ذلك كان الموت في الوجدان المسلم مجردَ انتقالٍ من دار الاختبار والابتلاء والتجربة؛ إلى دار الحساب والجزاء. ولمّا كانت نشاطات المسلم جميعاً ينبغي أن تتحرك صوب رضوان الله عز وجل طلباً لجنته، كان من الضروري أن يجعل من الموتِ سبيلاً إلى ذلك وواسطة إليه.
ها هو ذا القرآن الكريم يَعيبُ صنوفاً من الناس لأنهم يحبون الحياة حباً شديداً يجعلهم يتكالبون عليها أيّاً كانت: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة:96]. وها هو ذا يكشفُ خبيئةَ أقوامٍ آخرين كرهوا الموت في سبيل الله تعالى: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِۗ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَاۗ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران154].
من أجل ذلك كان الموت قريباً في حسِّ المسلمين، وكان إلى جانب ذلك وسيلةً من الوسائل، ونشاطاً من النشاطات طلباً لرضوان الله عز وجل، فكان أعظمُ آمالهم أن يفوزَ الواحدُ منهم بالشهادة، ليكونَ موتُه عبادةً لله عز وجل، تماماً كما كانت صلاتُه وزكاته وبيعه وشراؤه، وجميع أنواع نشاطاته.
ولم يكن ذلك ليغيبَ عن جيل المؤمنين الأوائل، ولم يكن ليغيبَ عنهم أن براعتَهم في صناعة الموت سببٌ من أسباب رقي الحياة واكتسابها، والتقدمِ فيها وصياغتها وفقَ ما يريد الإسلام، وربما كانت كلمةُ الصدّيق لخالد بن الوليد رضي الله عنهما تلخيصاً مُكثّفاً ممتازاً لهذا المعنى: "يا خالد! احرصْ على الموت توهب لك الحياة"، ولربما استحال الموتُ لدى بعضِهم غائباً حبيباً يُنْتَظَرُ ويُشْتاقُ إليه ويُؤْنَسُ بقدومِه، يتمثل ذلك في كلمة الخليفة الراشد عليٍّ بن ابي طالب رضي الله عنه عن نفسه: "واللهِ لَابْنُ أبي طالب آنسُ بالموتِ من الطفلِ بثديِ أمه".
وهذا هو الذي يفسر لنا فِعْلَة ذلك الذي أصيب فأخذ يلطخ يدَه بدمه السائل ويمسحُ بها وجهَه، وهو أشدُّ ما يكون فرحاً واستبشاراً وسعادة، ويفسر لنا لماذا كان معاذُ بن جبل رضي الله عنه يقبِّلُ راحةَ يده لمّا أصيبت بالطاعون ويخاطبها قائلاً: "ما أحبُّ أنَّ لي بما فيكِ شيئاً من الدنيا"، ويفسر لنا لماذا كان بلال بن أبي رباح رضي الله عنه، يقول إذ حضره الموت: وا طرباه، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه، وأمثال هذه الروايات التي تَكْثُرُ في التاريخ الإسلامي وتنتشر فيه.
وما أحسب واحداً منا إلّا ويعرف حرصَ خالد بن الوليد رضي الله عنه على الشهادة في سبيل الله ورَمْيَه نفسَه في أشدِّ المخاطر طلباً لها، ذلك أن هذه الميتة هي أعظمُ آمالِه في الحياة على الإطلاق، ولعلنا جميعاً نحفظ جملته التي قالها قبلَ موته: "لقد شهدتُ كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي موضعٌ إلا وفيه ضربةُ سيف، أو طعنةُ رمح، أو رميةُ سهم، ثم ها أنذا أموت على فراشي حتفَ أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعينُ الجبناء". كلماتٌ مضيئة رائعة تكشف عظمةَ الآمال الكبار التي كانت تملأ خَلَدَ البطل المسلم، ذلك الذي دوَّخَ الدنيا، وانتصر في كل مكان، لكن شوقَه إلى الشهادة كان أعظمَ من ذلك جميعاً في وجدانه. لقد حوَّله الإسلامُ تحويلاً عجيباً، وصاغه صياغةً فريدة، فإذا هو في حياته جميعاً يطلبُ الموت، وإذا هو فيمن يقتلُ من الأعداء، وفيمن يُقْتَلُ من جماعتِه يصنعُ الحياة ويصوغها، ويشيِّدها وفقَ ما يريده الإسلام، كانت حركتُه حياةً تؤدّي إلى الموت، وموتاً يؤدّي إلى الحياة، ولذلك امتلكه حبُّ الجهاد، وسيلة ذلك وواسطتِه، امتلاكاً شديداً جداً حتى إنه ليقول: "ما ليلةٌ يُهْدى إليَّ فيها عروسٌ أو أُبَشَّرُ فيها بوليد، بأحبَّ إليَّ من ليلةٍ شديدةِ الجليد في سريةٍ من المهاجرين أُصَبِّحُ بهم المشركين".
وشاء الله عز وجل لحكمةٍ هو أعلم بها أن لا يموت شهيداً، ويعجبني في تعليل هذا خاطرةٌ ذكية لعالمٍ هندي معاصر يذكر فيها أن خالداً ما كانَ له أن يموتَ شهيداً مهما حاول لأنه سيفُ الله، وسيفُ الله لا يُغْمَد! وأيّاً كان فإن العبرةَ في حياةِ خالد وموته، وآمالِه وأمانيه تَمْثُلُ أمامنا بوضوح بالغ، لتؤكد لنا فكرةَ الحياةِ التي تصنعُ الموت، والموتُ الذي يمنحُ الحياة.
وإني لأرى لزاماً علينا اليوم، ونحن أمةٌ تحاولُ القيامَ والنهوض أن نرتب قائمة الفنون والصناعاتِ والمهارات التي علينا أن نحصلَ عليها، على أن يكونَ هذا الترتيبُ بحسبِ أهميتِها وأولويتها، وعلينا أن نضعَ في هذا الجدول المرتب فَنَّ الموتِ الشجاع الكريم، ونرسّخه، لأنه السبيلُ إلى الشهادة في سبيل الله عز وجل من ناحية، ولأنه من ناحية أخرى إسهامٌ في بناءِ الحياة وصياغتها، وإتقانها واكتسابها، والسبقِ فيها والظهور.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق