الساحر والراهب والغلام
لعلنا جميعاً نعرف قصة الساحر والراهب والغلام تلك التي جاءت في الحديث النبوي الشريف عن رسول الله ﷺ، وهي قصة غنية بالعبر والدلالات، حافلة بالمواعظ والدروس، ولعل أهمَّ ما يعنينا الآن فيها هو أن الغلام ظل حتى بعد موته يمارس دوره في الدعوة إلى الله عز وجل والإيمان به.
فهذا الغلام الذي تم اختياره ليتعلم السحر، شاء الله عز وجل له الهداية على يد راهبٍ صالح، وحين عرف بذلك الطاغية الذي أرسله حكمَ عليه بالموت، لكنه كان ينجو من الموت في كل مرة حتى حار الطاغية في الأمر، وهنا دلَّه الغلام على السبيل إلى قتله؛ وهو أن يجمع الناس كلَّهم في صعيد واحد، ثم يصلب الغلام على شجرة، ويأخذ سهماً من كنانته، ويقول "باسم الله رب الغلام"، ثم يطلقه، فحينذاك يصاب الغلام فيموت.
وقع الطاغية الجائر في الفخ الذي نصبه له الفتى، وفعل ما أمره به، فإذا بالفتى يموت، وهنا هتف الناس جميعاً: آمنّا برب الغلام!.. وذلك بالضبط ما كان يهدفُ إليه الغلام حين دلّ الطاغية على طريقة قتله.
فهؤلاء الناس الذين انتشر فيهم نبأُ الغلام وعَجْزِ الطاغية عن قتله إذ يُؤْخَذُ لتنفيذ حكم الموت به فيقول: اللهم اكفنيهم بما شئت، فيهلكُ مَنْ معه ويعودُ وحدَه ناجياً إلى الطاغية، علِموا أن في الأمر سراً، فلما شاهدوا الغلام يموت بالطريقة التي اختارها، سارعوا إلى الإيمان بالله عز وجل، وهتفوا: آمنا برب الغلام، لأنهم أيقنوا بأنه على الحق، وأن الطاغية الذي كان يزعمُ لهم أنه ربُّهم على الباطل.
موضع العبرة في عملِ الغلام المؤمن واضحٌ بيّن، لقد اختار الميتة التي تثبت أنه على الحق وأن الطاغية على الباطل، وكان اختياره في غاية التوفيق والسداد حين طلب أن يكونَ الناس كلُّهم على صعيد واحد ينظرون ما الذي يجري له، لينهارَ زيفُ إيمانهم ويقينهم بالكافر الطاغية، ويحلَّ بدلاً منه الإيمان بالله عز وجل.
إن بوسعنا أن نقول: إن هذا الغلام كان يمارس دوره في الدعوة إلى الله عز وجل وصُنْع الحياة وفقاً لتوجيهاته الربانية الكريمة حتى بعد أن مات. فالناس أعلنوا إيمانهم بعدَ موته، ثم ثبتوا على هذا الإيمان، حين خُدَّتْ لهم الأخاديد في الأرض أوقِدت فيها النيران، ثم جُعلوا بين أمرين: أن يعودوا عن إيمانهم أو أن يُلْقَوا في النار، فكان أن أقدموا على النار جميعاً فماتوا شهداء مبرورين. وبوسع المرء أن يحيط بالأمر في تفسير سورة البروج من الجزء الثلاثين من القرآن الكريم إذا أراد الزيادة[1].
إننا نريد أن نستخلص من هذه الحادثة الفذة أن الشهيدَ يظلُّ يمارسُ دورَه في الدعوة إلى الله عز وجل بشكل أو بآخر، وإني لعلى يقين كبير أن الطاغية الذي فعل بالغلام ما فعل لو كان يعرف هذا المآل، لَما استمع إلى ما نصحَه به الغلام عن طريقة موته، تلك الطريقة التي أوقعه نجاحها في مأزق كبير، إذ إن الغلام قد مات، لكن الناس جميعاً سارعوا للإيمان، لقد رأى الطاغيةُ بعينِه شخصياً ما الذي استطاع الغلام أن يفعله بقتلِه.
وكثيرون هم أولئك الذين كان مَثَلُهم في النفعِ بعد موتهم كمَثَلِ الغلام، ولا يخطئ المرء أن يلمح في التاريخ الإسلامي شهيداً أعزل يسوقه الطاغية إلى الموت لأنه داعية إلى الله تعالى، ويحسبُ أنه قد ارتاح منه، فإذا بالذي كتبه هذا الشهيد من معينِ الإيمان والقرآن، يدافع به عن دينِ الله، ويهاجمُ الأفكارَ الكافرة، يمتدُّ ويمتد، ويتعاظم وينتشر، ويشرّق ويغرّب، وإذا بالناس ينتفعون به، وإذا به يمارسُ دوره في الدعوة إلى الله عز وجل حتى بعد أنْ مات، فتهتدي بما كتبَ طائفةٌ من الناس، وتحاولُ أن تصوغ الحياة وفق أوامر الله عز وجل. ومَنْ يدري لعل الطاغية لو عرفَ هذه النهاية لَما ساق الشهيدَ نحو الموت، فقد رأى بعينه نفعَه بعدَ استشهاده تماماً كما رأى الطاغية صاحبُ الغلام.
يا للعجب!.. إنه الموت الذي يصنع الحياة، إنه الموت الذي يظل أصحابه يمارسون دورهم في الدعوة إلى الله عز وجل، وهداية الناس، حتى بعد أن تخمدَ منهم الأنفاس.
إن هذا الضربَ من ضروب الموت هو ما تحتاجُه حياتُنا اليوم لتصحَّ وتزكو، وتطيبَ وتطهر، وتتخلص من مواقع التخلف والهوان، وتستشرف مواقع السيادة والبطولة، والعظمة والطموح، والهداية والاستعلاء.
ولقد كان إتقان الأمة المسلمة لهذا الضرب من ضروب الموت سبباً فعّالاً من أسباب سيادتها وتفوقها وانتصارها. والشواهد على صدق هذه الحقيقة كثيرة جداً في تاريخنا البطل، تلتقي بها في كل سطوره العطرة، ومنها قصة الشاعرة الخنساء التي كان حديثُها من أعجب العجب!..
إن أبناءها الأربعة يُسْتَشْهَدون في القادسية فما تزيد على أن تقول: الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو أن يجمعني بهم في مستقر رحمته!.. وهم فلذات كبدِها، وكانت من قبل قد ملأت الدنيا صراخاً وبكاءً على أخٍ لها قد قُتِل في الجاهلية.
إن الفرق بين موقف الخنساء من أولادها، وبين موقفها من أخيها صخر، هو الفرق بين ما تصنعه الجاهلية، وبين ما يصنعه الإسلام، وإني لأجدُ عبارتَها عن أولادها الشهداء لأكبرُ من التعليق، خاصة قولها: شرَّفني بقتلهم.
وكالخنساء نجد تلك الصحابية الكريمة التي استشهد ثلاثةٌ من ذويها يوم أحد فما يَفْتِكُ بها الحزن، وإنما تسارعُ للسؤال عن رسول الله ﷺ، حتى إذا اطمأنت عليه قالت: كلُّ مصيبةٍ بعدَه جَلَل، أي هيّنة.
لقد هان عليها استشهاد ذويها الثلاثة لنجاة الرسول الكريم ﷺ!.. موقفٌ كريم يليقُ بالمرأة المسلمة، ويليقُ قبلَها بالأمة المسلمة التي ترى أن الموتَ ربما يكون سبباً.. لا للفوزِ بالجنة فحسب، بل لدفعِ عجلة الحياة إلى الأمام، وصياغتها وفقَ ما يريدُه الإسلام.
----------------
[1] ورواه الإمام مسلم عن صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه، برقم: 3005.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق