الشهداء.. الأموات الأحياء
لمّا كان لموت الشهيد في سبيل الله عز وجل، دورٌ إيجابي بالغ يتجاوز حدودَ سعادته الشخصية، إذ يفوز بجنة الله تعالى ورضوانه العظيم، ليتصل بحياة المسلمين القائمة في هذه الدنيا، فيسهمَ في تصحيح وجهتها، وجلاء أهدافها، ودفع موكب الخير فيها إلى الأمام، جاء التوجيهُ القرآني الكريم يكشف لنا عن حقيقة كبيرة قد ننساها ونحن نقيس الأمور إلى ظواهرها المادية فحسب، هذه الحقيقة هي أن الشهيد حيٌّ، حيٌّ وإن بدا أنه مات، حيٌّ وإن خمدت منه الأنفاس، حيٌّ على صورة من الصور، اللهُ عز وجل أدرى بها وأعرف. يقول جل شأنه: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًاۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169-171]، إنه نهي كريم من ربٍّ كريم أن نَصِفَ مَن استشهد في سبيل الله بالموت، فهم أحياء بشهادة الله تعالى، وهو خالق الموت والحياة.
هم قُتِلوا وماتوا، تلكم صورةُ الأمرِ الظاهريةُ فحسب، ولكنهم في حقيقة الأمر ما زالوا يخدمون الفكرة التي استشهدوا من أجلها، فهي ترتوي بدمائهم وتمتد، وتزحف وتتحرك، وهذا عمل من أعمال الحياة. إن فاعليتهم في نصرة الحق الذي قُتِلوا من أجله فاعلية مثمرة مؤثرة تتسع وتكبر، وهذه الفاعلية التي يمارسونها بعد موتهم عملٌ من أعمال الحياة لا ريب في ذلك.
ثم إن الناس بعد استشهادهم يتأثرون بهؤلاء الشهداء، ويقتبسون من بطولتهم، وتأثُّرهم هذا يقوى ويمتد، واقتباسهم هذا يتعاظم ويستمر، فالشهداء إذَنْ عنصرٌ فعّال، دافعٌ مؤثر، يسهم في تكييفِ الحياة وصياغتها، وهذا عملٌ من أعمال الحياة لا يجادل في ذلك إلّا مكابر.
الذين يموتون من غيرِ الشهداء يكونون في خمودٍ وتوقف وانقطاع وذلكم هو الموت، لكن الشهداء يكونون في فاعلية ونمو، وامتداد وتحرك، يظهرُ ذلك فيما تستفيده حركةُ الإيمان في الأرض من بعدهم بالذي قدّموه رخيصاً في سبيل الله عز وجل، وتلك هي الحياة.
الشهداء أحياءٌ إذَنْ ولكنْ لا نشعر نحن بذلك، لأن سرَّ هذه الحياة فوق إدراكنا البشري المحدود القاصر، وما أروع ما قاله الشهيدُ العظيم سيد قطب رحمه الله عنهم: "أحياء، ومن ثَمَّ لا يُغَسَّلون كما يغسل الموتى، ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها، فالغسلُ تطهيرٌ للجسد الميت وهم أطهارٌ بما فيهم من حياة، وثيابُهم في الأرض ثيابُهم في القبر لأنهم بعدُ أحياء، أحياء فلا يَشُقُّ قتلُهم على الأهل والأحباء والأصدقاء، أحياء يشاركون في حياةِ الأهل والأحباء والأصدقاء، أحياء فلا يَصْعُبُ فراقهم على القلوب الباقية خلفَهم، ولا يتعاظَمُها الأمر، ولا يَهُولُها عِظَمُ الفداء، ثم هم بعد كونهم أحياء، مُكْرمون عند الله، مأجورون أكرمَ الأجر وأوفاه. ولكن مَنْ هم هؤلاء الشهداء الأحياء؟ إنهم أولئك الذين يُقْتَلون في سبيل الله، في سبيل الله وحده، دونَ شركةٍ في شارةٍ ولا هدفٍ ولا غايةٍ إلا الله، في سبيل هذا الحق الذي أنزله، في سبيل هذا المنهج الذي شرعه، في سبيل هذا الدين الذي اختاره، في هذا السبيل وحده لا في أي سبيلٍ آخر، ولا تحت أي شعار آخر، ولا شركةٍ مع هدفٍ أو شعار. وفي هذا شدّدَ القرآن، وشدّدَ الحديث، حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر غير الله، وهذا هو الجهاد، وفيه وحده تكون الشهادة، وتكون الحياة للشهداء".
لقد كان استقرار هذه المعاني العظيمة في خَلَدِ المسلمين قوياً جداً، راسخاً أعظمَ ما يكون الرسوخ، فكان أعظمُ أملٍ شخصيٍّ للواحدِ منهم أن يقضيَ شهيداً في سبيل الله عز وجل. لمّا كان يومُ أحُد رفعَ رسولُ الله ﷺ النساءَ والصبيان والعجزة إلى آطامِ المدينة المنورة تحسّباً لما قد يحدث، وأخذاً بالحيطة والحذر. وفي واحد من هذه الآطام كان عجوزان مسلمان طاعنان في السن هما اليَمانُ بن جابر، وثابتُ بن وَقْش، كانا معذورين عن الخروج للجهاد، لكنَّ في كلٍّ منهما نفساً كريمة عيوفَاً، فإذا بهذه النفس تحمل صاحبَها على الخروج من الأطم، واللحاق بالمجاهدين عند أحُد، قال أحدهما لصاحبه: "لا أبا لك، ما ننتظر؟! فوالله ما بقي لواحد منا من عمرِه إلا ظِمْءُ حِمار، إنما نحن هامةٌ اليومَ أو غداً، ألا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله ﷺ؟".
وانطلق العجوزان من الحصن، ودخلا حومة الوغى، جسماهما واهنان عاجزان، لكنَّ روحيهما فتيّتان ناضرتان، وما هي إلا جولةٌ وأخرى، حتى فاء الشيخان الكريمان إلى حيثُ المقيلُ الأخير هانئين سعيدين فقد فازا بالشهادة، وسارعا إلى الموت، ولم ينتظرا قدومَه المرتقب حيث لا مفر ولا مهرب.
ذلكم مَثَلٌ كريم من حرص المسلمين على الشهادة في سبيل الله عز وجل، ذلك أنها سبب للفوز برضوان الله تعالى وجنته من ناحية، ثم هي دفعٌ لعجلة الحياة نحو الأمام حيثُ موكب الخير والهداية والإيمان من ناحية أخرى. لا، ليس القتلُ في سبيل الله عز وجل، وارتفاعُ المسلمِ على الدنيا وإيثارُه الآخرةَ، عملاً سلبياً، وهروباً من تكاليف الحياة وأعبائها لأنه ارتفاعٌ إلى أشرفِ الآفاق، واحتمالٌ لأكبر المسؤوليات، وقيامٌ بحق الأمانة، ثم هو بعد ذلك كلِّه حياة، حياةٌ بكل ما في كلمة الحياة من معانٍ ودلالات، حياةٌ يُكْرَمُ بها الشهيدُ بعد مغادرته الدنيا، وحياةٌ تستمدُّ منها قافلةُ الحياةِ المسلمة وقوداً جديداً، ونماءً وفاعلية، وقدرةً على استئنافِ الجهاد.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق