خلفاء العدل والرشد
حين بويع أبو بكر الصديق رضي الله عنه خليفةً على المسلمين بعد وفاة رسول الله ﷺ بدأ عهدَه الراشد المبارك بقوله للناس: "لقد وُلِّيتُ عليكم، ولست بخيركم، إن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسولَه، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".
وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال يعلِّمُ الناس حقوقهم تجاه حاكميهم: "يا أيها الناس إني والله ما أرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشارَكم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فُعِلَ به شيءٌ من ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده لأقصَّنَّه منه. فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين أرأيتَكَ إنْ كان رجلٌ من أمراء المسلمين على رعيته فأدَّبَ بعضَ رعيته، إنك لتقصُّ منه؟ قال عمر: إي والذي نفس عمر بيده إذاً لأقصَّنَّه منه، وكيف لا أقصُّ منه وقد رأيت رسول الله ﷺ يُقِصُّ من نفسه، ألا لا تضربوا الناس فتذلوهم، ولا تجمِّروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفّروهم".
وكتب عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى جميع الأمصار: "إني آخذ عمّالي بموافاتي كل موسم، وقد سلَّطتُ الأمةَ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يُرْفَعُ عليَّ شيءٌ ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته. وقد رَفَعَ إليَّ أهلُ المدينة أن أقواماً يشتمون ويضربون، فمن ادّعى شيئاً من ذلك فليوافِ الموسم يأخذ حقه حيث كان؛ مني أو من عمالي".
هذه شواهد ثلاثة من العصر الراشدي الزاهر، يمكن لك أن تتخذَ منها وثائقَ ناطقة على عظمة النظرة التي كان الإنسان يُعامَلُ على هديها، بحيث تُصانُ كرامته وتُحْفَظ، فلا يكون محلَّ أيِّ سوء أو احتقار، أو أذى أو مهانة.
إن هذه الشواهد أشبهُ شيءٍ بالبيانات الوزارية التي تذيعها الحكومات عما تنوي أن تفعله وتقوم به، فالأمر هنا أمرُ اتجاه عملي، وصيغةٍ تطبيقية، وسلوكٍ تنفيذي، أما الأسس والمنطلقات فهي ما جاء في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله الكريم ﷺ مما مرَّ بنا الحديثُ عنها من قبل.
ولقد شهدتْ حياةُ الناس، الواقعية اليومية تطبيقَ هذه المبادئ بشكل عملي ملموس في السلوك اليومي في المدينة المنورة، عاصمة الإسلام ومَأْرِزِه، وفي بقية الديار التي كان يحكمها المسلمون. وإن الأمثلة على صحة هذا التطبيق وصِدقه لكثيرةٌ حقاً، كلها تشهد بصدق هذا التطبيق وجديته.
فقصة الغلام القبطي الذي يشكو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لطمة من ابن فاتح مصر وحاكمها عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ معروفة مشهورة متداولة.
وقصةُ جَبَلَة بن الأيهم مع الرجل الفزاري معروفة هي الأخرى، وقل مثلَ ذلك عن مئات القصص الأخرى بل آلافِها. وحسبك أن الخليفةَ الراشد الرابع عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان يختصمُ إلى قاضيه مع رجل ذِمِّي حولَ درعٍ فقدها، فيجلس مع الذِّمّي عند القاضي الذي يحكمُ بالدرع للذِّمّي لأن الخليفة ليست لديه بيّنةٌ تثبت أن الدرع له.
إننا لا نخطئ أن نلمس مدّاً تحررياً عميقاً أطلقه الإسلام في أرواح الناس وضمائرهم، فإذا بهم يستشعرون كرامتهم بإباء، وإنسانيتهم باعتزاز، وإذا بهم -حاكمين ومحكومين، مسلمين وغيرَ مسلمين- أقوى الأدلة على أصالة المنهج الإسلامي وجدّيته في التطبيق، بحيث جعل إحساس الجميع بكرامتهم الآدمية من أولى وأهم البديهيات في حياتهم.
فلعل الفتى القبطي صاحبَ الشكوى المشهورة كان لا يزال يحمل على ظهره آثار سياطِ الرومان، لكنَّ موجةَ التحرر النفسي والروحي، التي أطلقها الإسلام أنستهُ هاتيك السياط، وأطلقتهُ إنساناً حراً كريماً، فإذا به يَفِدُ من مصر إلى المدينة المنورة للشكوى من لطمة فحسب؛ لدى الخليفة العظيم الذي عَلَّمَ شعبَ مصر الكرامة بعد أن فقدها تحت سياط الرومان، ولا عجب في ذلك فإن الإسلام قد غيّر حياة الناس ورفعها إلى الأعلى حتى مَنْ كان منهم غيرَ مسلم.
صحيحٌ أن هذا المستوى الرفيع لم ترتفع إليه الإنسانية، ولكنْ صحيحٌ كذلك أن الخط الكبير الذي خطّهُ الإسلام في كرامة الإنسان وحريته وحقوقه قد استقر في الوجدان البشري، وترك فيه آثاراً عميقة لا تزال تمارس دورها حتى بعد توقف المد الإسلامي، فإذا به يعلن مثلاً في عصرنا الحاضر ما سُمِّيَ "حقوق الإنسان".
صحيحٌ أن حقوق الإنسان في عالمنا اليوم تُنْتَهَكُ كثيراً على مستوى الأفراد والشعوب في شتى القارات، ولكن صحيحٌ كذلك أن الإحساس بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان قد تأصل في الوجدان البشري ورسخ، وأن هذا الإحساس عونٌ للإسلامِ كبير، يساعدُه على التقدم والزحف حين تنطلق أمواجُه في امتدادٍ جديد إن شاء الله، لينقذَ الإنسانيةَ الضائعة كما أنقذَها من قبل.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق