ألب أرسلان وملحمة ملاذكرد
هو السلطان المجاهد الشجاع ألب أرسلان السلجوقي رحمه الله، نلتقي به في مطلع النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، شاباً في العقد الرابع من عمره، متقد الآمال، جياش المُنى، قوي النفس والعزيمة، يحكم دولة واسعة عظيمة، تمتد من تركستان إلى ضفاف دجلة. كان له ولع بالجهاد، فخاض كثيراً من المعارك الطاحنة، وصارع الدولة البيزنطية التي كانت يومذاك من أشد خصوم الإسلام في العالم، وخاض معها سلسلة من المعارك، كان أعظمها على الإطلاق معركة "ملاذكرد".
ففي عام 463هـ= 1071م سارع الإمبراطور البيزنطي رومانوس إلى حشد جيش ضخم لهّام بلغ عدده في رواية 100,000 مقاتل، وفي أخرى 200,000 مقاتل، وسار به لمحاربة دولة السلاجقة الذين كانوا يمثلون في تلك الأيام وثبة قوية شابة من وثبات الإسلام الكبرى.
ولما سمع ألب أرسلان بهذا، سارع من فوره لملاقاة رومانوس بجيش يبلغ عدده في رواية 40,000 فارس، وفي أخرى 15,000 فارس فقط. وفكّر السلطان المسلم حين رأى التفوق الهائل لصالح جيش العدو أن يعقد هدنة مع رومانوس فبعث إليه بذلك، لكن رومانوس رأى في طلبه دليل ضعف وإحجام فرفض الهدنة، وردّ على ألب أرسلان ردّاً خشناً جافياً، فكان لهذا الرد عند السلطان المسلم موقف ضخم عملاق، كتب للإسلام والمسلمين صفحة فخار وبطولة، شامخة باذخة متفوقة.
اختار السلطان المسلم يوم الجمعة موعداً للاشتباك مع الروم البيزنطيين، وصلّى بجنده، وبكى خشوعاً وتأثّراً، وبكى الناس معه، ثم امتطى فرسه وقد لبس البياض وتحنّط استعداداً للموت، وعزم على أن يكون في طليعة المجاهدين، وأعلن لجنوده أنه إذا استشهد فإن ساحة الحرب مأواه الأخير.
كان ألب أرسلان يؤمل أن تُغْنِيَ شجاعة القلة المؤمنة، وحسن ثقتها بالله عزّ وجل عن العدد الكبير والعتاد العظيم، ولم لا!؟ أليست له في تاريخ الإسلام شواهد كثيرة على ذلك؟ أما انتصر المسلمون وهُم قلة، على خصوم لهم، هم أكثر عدداً وعدة في بدر والأحزاب، وحُنين، والقادسية، واليرموك، ونهاوند،.. وغير ذلك من المعارك!؟
لقد اتضح للمسلمين أنّ لهم قانوناً مع النصر والهزيمة لا يتخلف ولا يحيد. إنّ لهم النصر والفوز والغلبة، ما أخلصوا لله النية، وترفعوا عن حطام الدنيا، واتخذوا ما بوسعهم من الأسباب، ولو كانوا أقل وأضعف في العدد والعدة.
أما إذا ضلّت منهم النية أو شابتها الشوائب، فتعلقوا بالمتاع الزائل، وانحرفوا عن هدفهم الرباني الكبير، فإن مآلهم إلى الهزيمة والخسران وإن كانوا أكثر عدداً وعدة. وإذن فليتعامل السلطان المجاهد مع هذا القانون بما يكفل له النصر، ويحقق له الفوز والغلبة، فليأت بمقدمات النصر كما يحددها ذلك القانون وليرقب ثماره وعطاياه.
والتزم ألب أرسلان مقدمات النصر والفوز خير التزام، ومضى ومَنْ معه على خير ما يكون المُضيُّ المؤمن الملتزم، إخلاصاً لله عز وجل، وترفعاً عن حطام الدنيا، واتخاذاً للأسباب المتاحة الممكنة.
ودارت المعركة عنيفة ضارية، واستبسل فيها الجانبان، وثبتا في الميدان، وأبدى المسلمون منتهى البراعة والصبر، والجَلَد والثبات، والاستماتة والبطولة، وأبدى الرومان مثل ذلك، لكنّ النصر تنزّل على القلة المسلمة، فما حلّ المساء حتى أحدث المسلمون في جيش العدو ثغرة أخذت تتسع، حتى وقعت بالرومان الهزيمة الفادحة المنكرة، وظفر المسلمون بنصر عملاق متفوق، ووقع الإمبراطور نفسه أسيراً بيد السلطان المسلم.
لقد كانت معركة ملاذكرد، مصداقاً للقولة الخالدة الذكية، قولة الصدّيق أبي بكر رضي الله عنه: "اطلُبِ الموتَ تُوهَبْ لكَ الحَياة"، وكانت إكليل غار وفخار يتوّج هامة السلطان البطل، ويؤكّد صدق القاعدة الخالدة المؤمنة التي يتعامل المسلمون مع قانونها الباقي حيال النصر والهزيمة.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق