الأربعاء، 6 يوليو 2022

الزنكيَّان والأيوبيُّ والحروب الصليبية

الزنكيَّان والأيوبيُّ والحروب الصليبية

     كان دخول الصليبيين ديارَ الإسلام، وإقامتهم أربع دول فيها نكبة كبرى أصيب بها العالم الإسلامي. فقد قامت حكومات هؤلاء الغزاة في قلب ديار الإسلام، أما المسجد الأقصى فقد حُوِّلَ إلى كنيسة، وأما القتل فقد كان صعباً مرعباً. وحسبك أن تعلم أنَّ الغزاة حين اقتحموا القدس، وتوجَّهوا إلى الأقصى ذبحوا فيه سبعين ألفاً، حتى علت دماء الشهداء؛ فإذا بخيول الغزاة تخوض فيها حتى رُكَبِها كما جاء في رسالة بعث بها بعض المنتصرين إلى أوربا يصفون فيها ما كان من أمرهم في يوم الاقتحام الدامي المشهور.

     حدث هذا كله، وكان بلا ريب نكبة عظمة، وكارثة كبرى، لكن المسلمين أفاقوا من روعة الذبح المستمر، والغفلة والفرقة، وعادوا إلى مصدر قوتهم، وسر انتصارهم، ومفتاح شخصيتهم، عادوا إلى الإسلام فصححوا أخطاءهم، وأقاموا طريقهم على هدي كريم، من هدي الإسلام، فإذا بالحال يختلف، وإذا بموجة امتداد الأعداء وانحسار المسلمين تتوقف، وإذا الأمر ينعكس، فيبدأ المسلمون في الامتداد، ويأخذ الصليبيون بالانحسار، ويحدث في التاريخ ما سمي بحركة الاسترداد، أي استرجاع المسلمين لبلادهم وتطهيرها من رجس الغزاة.

     فمنذ أن ظهر الزنكيان العظيمان، عماد الدين زنكي الذي استعاد الرُّها من الصليبيين، وابنه نور الدين زنكي، الذي أكمل جهاد والده، بل ومن قبل ذلك ببعض الوقت بدأ المد الإسلامي ونشطت حركة الاسترداد، أي أن ذلك تمَّ منذ أن قررت الأمة الإسلامية أن تجاهد، وتركت الراحة الكسلى، والقعود الكئيب، والحلول الاستسلامية الانهزامية، وقررت أن تكون على مستوى إسلامها، فتنهض بالجهاد وأعبائه خير نهوض، وتلتمس في ذلك معين القوة الذي يتدفق فيها فيمدها بالعزيمة والهمة والحركة، وتكتشف خلال ذلك كله حقيقة نفسها ومفتاح شخصيتها، إذ تعود للإسلام وتحرص على الاستمساك به، وعندها يكون لديها من البديهي المقرر أن تجاهد لتطهر أرضها من الغزاة الظالمين.

     ويشهد التاريخ أن الأمة المسلمة منذ أن قررت القتال لم تسترح، وبذلت الكثير من التضحيات، لكنَّ كل ما بذلته كان أقل مما خسرته يوم هانت وتنكبت سبيل الجهاد، وصدق مَنْ قال: ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، هذه واحدة.

     أما الثانية فهي أنها حين قررت أن تجاهد، ارتفعت إلى مسؤولية إسلامها، وهذا فوز عظيم لها عند ربٍّ كريم، وهذا يؤكد ما نقوله دائماً من أن الإسلام سبيلُ سعادتنا في الدين والدنيا معاً، فها هم المسلمون إذ طفقوا يجاهدون الصليبيين، أثبتوا جدارتهم بإسلامهم من ناحية، فإذا بهم يغلبون العدو، ويكون لهم النصر المظفر في دنياهم، فضلاً عن أمل الفوز في أخراهم عند رب العالمين من ناحية ثانية.

     وتنقلت راية الجهاد الإسلامي من الزنكي الأب عماد الدين، إلى الزنكي الابن نور الدين، ثم انتقلت من نور الدين إلى صلاح الدين الأيوبي، الذي شاء الله تعالى أن يكتب على يديه أعظم فصول مرحلة الاسترداد، وهو معركة حطين وفتح بيت المقدس. لم يرهبْ صلاحُ الدين خطورةَ المعركة قط، ولم يخشَ أن أوربا كلَّها وراءَ عدوِّه اللدود، بل اعتصم بالله تعالى، واستمدّ منه العون، ثم أخذ يبذل كل جهوده، ويحشد كل ما يقدر عليه من وسائل وإمكانات وأسباب، ولجأ إلى الإسلام سرِّ قوة المسلمين ومفتاحِ شخصيتهم، ورفعَ رايةَ "وا إسلاماه"!.. فامتصَّ الهزائم، وانتقل من نصر إلى نصر، وزحف عام 583هـ= 1187م إلى حطين، حيث قصم ظهر العدو هناك، وفي العام نفسه فتح بيت المقدس.

     عادت القدس إلى المسلمين من جديد، وعاد المسجد الأقصى إلى ما كان عليه من قبل، ودوّى الأذان من جديد، وعبقتِ الأرض ريّا الساجدين، وضاعَ في الجو عِطْرُ الجُمَعِ الحسان، بعد انقطاعٍ دام حوالي قرن من الزمن.

     وبعد صلاح الدين واصل مَنْ خَلَفَهُ من الأيوبيين والمماليك تطهير ما بقي من ديار الإسلام بأيدي الصليبيين، حتى استرجع قلاوون في آخر الأمر عكّا، ولم يبقَ للعدو في البلاد شيء قط.

     ترى أثمةَ شكٌّ في أنَّ هذه الانتصارات العظيمة إنما تعود إلى الإسلام، دين الله الخالد المحفوظ، سبيلِ سعادتنا، وموئلِ فخارنا، وسرِّ قوتنا، ومفتاحِ شخصيتنا!؟

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة