قال.. وقلتُ..
قال: لقد انهزمتم معشرَ المسلمين، ومع ذلك لا تزالون تفاخرون وتشمخون!.
قلت: ولِمَ العجب؟ وأيُّ أمةٍ لم تنهزم؟
قال: لكن هزيمتكم كانت كبيرةً مُرّة.
قلت: صدقتَ!. وهذا سرُّ فخارِنا وشموخنا واعتدادنا وإبائنا.
عندها استغرب وتعجّب، وفَغَرَ فاه من الدهشة والذهول...
ثم قال: ألا ترى أن ذلك مَحْضُ غطرسةٍ وكبرياء، وإلّا فكيف تعلِّلُ ما تقول؟
قلت: لا غطرسةَ ولا كبرياء، الأمر أبسطُ من ذلك، لو أن أمةً تعرّضت لِما تعرّضنا له من هزائم لبادت وامَّحت، وصارت خبراً من الأخبار، وبقاؤنا بالرغم مما تعيّرنا به من نكبات أعظمُ دليلٍ على أننا أقوى منها وأبقى.
سكت يتأملُ فيما قلتُ له، فسارعتُ أروي له أخبارَ هزائمَ لا يعرفُها حلّت بأمتنا عَبْرَ تاريخها الطويل، في الشرق والغرب، وكيف خرجتْ منها تضجُّ بالحياة والعافية، والطموح والعنفوان، بعد أن ظنَّ بعضُهم أنها مضت أدراجَ الرياح.
وبعد صمت رفعَ إليَّ وجهاً مرهقاً، تعلوه بسمةٌ صفراوية ماكرة،
وقال: كنْ شجاعاً، وقل لي: أيهما اليوم شجرتُه أعلى وأطول أنتم أم أعداؤكم!؟
قلت له: ربما كانت شجرة العدو كما تقول، لكنَّ شجرتَنا أرسخُ وأثبت، وأعمقُ جذوراً في الأرض، فهي أقوى إذن على مواجهةِ الرياحِ الهوج والأعاصيرِ المدمرة.
قال: ولكنْ ألا ترى أن شجرتكم قد جفّت أوراقها واصفرّت؟
قلت: قد يكون حقاً ما تقول، لكنني أقسمُ لك: إنَّ سِقايةً واحدةً لها كفيلةٌ أنْ تجعل الأغصان تعلو، والأوراقَ تخضر، والحياةَ تملؤها بالخيرِ والنماء.
قال: عجباً لك أيُّ سقايةٍ هذه التي تتحدث عنها؟
قلت: إنها شَرْبَةٌ من ماءِ الإيمان، وهو ماءٌ إذا استسقت منه أشجارنا فعل بها الأعاجيب، عطاءً وبذخاً، وجوداً وحصيلة، ونِتاجاً لا يخطرُ لك على بال.
قال: أعداؤكم أكثرُ منكم في العددِ والعدّة.
قلت: لا خَيْرَ في ذلك، لقد اعتدنا أن نتلقّى نصرَ الله على الرغمِ من قلةِ عددِنا وعُدَدِنا إذا كنا معه صادقين، وإن كتابَنا الكريم يقول: ﴿كم من فئةٍ قليلة غلبت فئةً كثيرة بإذن الله﴾ [البقرة: 249].
قال: أما ترى أنك تُماري وتُكابر، وتجادل وتعاند؟
قلت له: أنت تؤكد اليوم أننا مهزومون، أليس كذلك؟
قال: بلى.
قلت: فاعلمْ أننا نكسبُ أنصاراً جدداً في كلِّ يوم، ورجالاً عاملين يدخلون معنا في معركتنا المصيرية. إنهم أولئك الذين يدخلون في ديننا في كلِّ يوم في شرق الأرض وغربها. أليس نصراً لنا أن يعتنقَ دينَنا أناسٌ مختلفون ونحن كما تعلم مهزومون؟ لم يجد الرجلُ جواباً.
فسارعتُ أقول له: لا تعجبْ فليست هي المرةَ الأولى، فإن المراتِ التي كنا ننتصرُ فيها ونحن مغلوبون كثيرة، وهذا هو موطنُ العجب.
أن تنتصرَ وأنت قويٌ ظافر، ليس ذلك عجباً قط، العجبُ هو العكسُ تماماً، وذلك ما نحن نملكه. سأعدّد لك فاحفظْ. التتارُ الذين دمّروا حضارتَنا أسلموا وهم غالبون ونحن مغلوبون. إنه لنصرٌ لنا أليس كذلك؟ هذه واحدة.
في الفترة التي كان المسلمون في الأندلس قد سقطت دولتهم نهائياً، دخل بعضهم في الإسلام واحتمل كلَّ ما احتمل المسلمون من عناءِ التعذيبِ والطردِ والتغريبِ والمصادرة، وهذه ثانية.
وفي الفترة التي وقعَ فيها الغزوُ الصليبي لديارنا، كان عددٌ من الغزاة الصليبيين يُسلِمون وقد جاؤوا ديارنا للقضاءِ علينا، وهذه ثالثة.
وفي الفترة التي سقطَ العالمُ الإسلامي فيها صريعَ التخلف، فاجتاحته جيوشُ الكافرين، كان هناك مَنْ يدخلُ في دينِ الله في آسيا وأفريقيا، بل وفي البلدان التي جاء منها الغزو، وهذه رابعة.
ودخول أناس في دين الله في أيامنا هذه، هنا وهناك، في الشرق والغرب، نصرٌ كريمٌ هو الآخر، وهذه خامسة.
إذن فنحن قادرون على الامتدادِ والزحف حتى في عجزِنا وفرقتِنا، وهزيمتنا وتخلفنا، وتراجعنا وانحسارنا، وذلك دونَ ريب دليلٌ على قدرةٍ ذاتيةٍ عجيبة، وأصالةٍ كبيرةٍ رائعة، وذاتيةٍ قويةٍ غلّابة.
إذا كانت لنا مثلُ هذه القدرة ونحن مهزومون، فما بالُك بقدرتِنا ونحن ظافرون؟ سكتَ ولم يَحِرْ جواباً قط.
فقلت له: لقد هدّك الرعب إذ فاجأتكَ هذه الحقيقة التي لم تكن تعرفها، لكن لا تخفْ، إننا في حالة النصرِ لسنا مِثْلَكُم قط.
إننا حين ننتصر لا نبغي ولا نظلم، ولا نسفكُ دماً حراماً، ولا نقطع شجرة ولا نقتلُ بريئاً ولا طفلاً، ولا عجوزاً ولا امرأة. ولا نجبرُ أحداً على الدخولِ في ديننا. مَنْ أحبّ أن يعتنقَ الإسلامَ فرحنا به أعظم الفرح ورحّبنا به، ومن أبى أخذنا منه الجزيةَ فحسب، وهي مالٌ يسير يدفعه لنا لقاءَ حمايته، وبعد ذلك فهو آمِنٌ على دينِه وماله، وتجارتِه وأهله، لا نظلمه في شيء قط. لا تعجبْ من ذلك قط، فذلك هو ما يأمرُنا به ديننا، وهو ما كانت حضارتُنا تعملُه طيلةَ أيامِ سيادتِها.
قلْ لي أيها الرجل بعدَ الذي سمعت: ألسنا نحن المسلمين خيراً منكم في حالي الهزيمةِ والنصر؟ كن شجاعاً وأجبني، ألسنا أجدرَ منكم بقيادةِ الحضارةِ الإنسانيةِ وتوجيهها؟
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق