جهاد الشيخ عز الدين القسام
يُروى أن الشيخ المجاهد عز الدين القسام خجل من أن يعلّم الناس دروس الجهاد، ومتى يكون فرض عين على كل مسلم، وهو قاعد، والاستعمار جاثم على فلسطين يعمل على إعداد الأمور فيها لتكون دولة لليهود فيما بعد.
خجل الشيخ المجاهد عليه رحمة الله من موقفه إذ هو قاعد، بينما وجب عليه النفير للجهاد في سبيل الله عز وجل، فخرج بنفسه يطبق ما يدعو إليه، وينفذ أمر دينه في وجوب المبادرة لجهاد الأعداء الذين احتلوا دار الإسلام في وطنه، ومضى في عصبة من المؤمنين المجاهدين، يقاتل العدو، فكان لتلاميذه أستاذاً في المسجد يعلمهم الحلال والحرام، وكان أستاذاً لهم في الميدان يعلمهم الجهاد في سبيل الله جل شأنه.
وحين ضيّق عليه المستعمرون الحصار في أحد المواقع، لم يهِنْ ولمْ يلِنْ، بل صابَرَ وجاهد، وحثَّ من معه على الصبر والثبات فإما النصر وإما الشهادة، فاستُشْهِد القسام، واستُشْهِد من معه جميعاً، وأفضوا إلى ربهم شهداء كراماً، أحياءٌ عنده يُرزَقون.
إنّ في الذي فعله الشيخ القسام رحمه الله تعالى وأجزل مثوبته؛ ما يكشف عن عظمة هذه العقيدة المكافحة التي تأبى على أبنائها القعود والركون والاستسلام، وتُهيب بهم أن يكونوا على مستوى جديتها وخطورتها، لذلك توجَّب عليهم أن يتحركوا للوفاء بمستلزماتها وإن كانت الظروف شاقة، والتحديات كبيرة، وجلّت المسؤولية وعَظُمَت، وقَلَّ الناصر والمعين.
فالقسام ومن معه كانوا قلة في العَدد والعُدد، ولم يكونوا مُدَرّبين على فنون القتال والحرب، وكانوا يواجهون استعماراً في غاية القوة والدهاء هو الاستعمار الإنكليزي، يوم كانت إنكلترا دولة لا تغرب عنها الشمس، وكانوا يواجهون كذلك إخوان القردة والخنازير وتجار الحرب والمفاسد والآثام، كانوا يواجهون الصهيونية الباغية المجرمة. ومع ذلك كله لم يَرَ القسام ومن معه بُدّاً من الخروج، ورأوا في قعودهم ما يطعن في صدق إيمانهم فخرجوا بعددهم القليل، وسلاحهم الضئيل، وإيمانهم القوي الجسور، وظلوا يجاهدون حتى فازوا بشرف الشهادة ومثوبتها.
إنها العقيدة الإسلامية المكافحة هي التي حركتهم، وهي التي منعتهم من القعود والركون، وأبَتْ عليهم ليّن المهاد، وطيّب الطعام، ولذيذ السبات، وما زالت بهم، تحثهم على أن يرتفعوا إلى المستوى الذي ينبغي أن يكونوا عليه، ويثبتوا صدق انتمائهم للإسلام، وبالفعل حاولوا ونجحوا في المحاولة إلى أقصى حدود النجاح، وقدّموا نموذجاً من نماذج حركة المسلم حين تستولي عليه عقيدته، نموذجاً أساسه العقيدة الصادقة، وبنيانه التضحية الغالية في وقت كانت تبدو فيه الظروف الخارجية غير مشجعة، مما يعطي الأمر دلالة أكبر، وهي أن لعقيدة الإسلام القدرة الدائمة على الكفاح والجلاد والصبر حتى في الظروف الشاقة، فضلاً عن الظروف العادية أو تلك التي تكثر فيها الأحوال المواتية المشجّعة.
وفي الحرب الفلسطينية الأولى التي كانت فيها جيوش عربية نظامية، وكانت فيها قوات فدائية شعبية، تجاهد هي الأخرى، دون أن ترتبط بحركات الجيوش العربية وتوجيهاتها، كنت تجد في هذه القوات الفدائية المتطوعة، رجالاً حرّكتهم العقيدة المكافحة المجاهدة فتوافدوا صابرين محتسبين لا يعرفون لجهادهم معنى إلا أنه في سبيل الله جل شأنه، توافدوا من مصر والشام، والأردن والعراق..، وغير ذلك من ديار الإسلام، بجهودهم الذاتية ومواردهم المحدودة، يتغلبون على دواعي القعود في أنفسهم أولاً، ويتغلبون على العراقيل التي كانت توضع في طريقهم، وألوان المصادرة والتضييق والتنكيل ليواصلوا المسير في طريق الجهاد، طريق القسّام الذي كان استشهاده لا يزال قريب العهد، واستطاعوا أن يسطّروا في تاريخ الجهاد صفحات رائعة مشرقة، تذكرك بصفحات الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، بلغ من روعتها وصدقها وأصالتها أن شهد بها بعض قادة اليهود أنفسهم في هاتيك الأيام، وإن حاولوا أن يشوهوا دوافعها الربانية النبيلة، وهذا ينهض دليلاً صادقاً على أهمية هذه العقيدة الإسلامية ودورها المبارك في إيقاد دوافع الجهاد والكفاح لدى أبنائها.
أن تمتلك العقيدة الإسلامية القدرة على التحرك في أوقات الرخاء والعافية والكثرة، والقوة المرهوبة الجانب، أمر حميد طيب، لكنه أمر لا تنفرد به دون العقائد الأخرى. أمّا أن تمتلك القدرة على التحرك في أوقات الشدة والمحنة والقلّة، وتكالب العدو وبغيه، فذلك هو الأمر الحميد الرائع الذي تنفرد به دون العقائد الأخرى جميعاً، وهذا يدل على مقدرتها الذاتية على التحرك، التي تتيح لها ذلك في كافة الظروف والأحوال.
وهذه الخاصية ظلت طيلة أحقاب التاريخ الإسلامي سبباً من أسباب بقاء هذا الدين، وانتشاره من بعد التوقف، وامتداده من بعد الانحسار، وهي في جوهرها دليل كبير على أنَّ هذا الدين رباني المصدر، محفوظ بحفظ الله تعالى له.
إنَّ وعْيَنا بهذه الحقيقة، حقيقة عقيدتنا المكافحة الصابرة، جزء من حسن فهمنا لديننا الذي ينبغي أن نتصف به، وهو بعد ذلك سبب من أسباب إدراكنا للنصر إن شاء الله في هذا الوقت الذي تنوشنا فيه التحديات من كل جانب.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق