البطولات في تاريخنا أكثر وأسمى
يحفل تاريخ الإسلام ببطولات كثيرة نادرة كانت ولا تزال مثار الإعجاب والدهشة والإكبار. ونحن لا نزعم أن تاريخ الأمم الأخرى يخلو من البطولات، ولكننا نؤكد أن البطولة في تاريخنا أكثر عدداً من ناحية، وتنوعاً من ناحية أخرى، كما أنها ذات هدف مختلف من ناحية ثالثة.
فالبطولات في الإسلام كثيرة كثرة هائلة، وأخبار الرجال والتاريخ خير شاهد على ذلك، وهي متنوعة أيضاً ما بين بطولة جسدية وفكرية وروحية، مما يجعلها في غاية الخصوبة والثراء، ثم إنها، وهذا أهم ما فيها، ذات هدف جليل، يختلف عن بطولات الآخرين، وهو ابتغاء رضوان الله تعالى ومثوبته.
ولقد استمدّ المسلمون مفهومهم للبطولة، ودوافعهم لها من توجيهات الإسلام وغاياته وأخلاقه، فكانت البطولة الإسلامية ابتغاء وجه الله عز وجل، وفي الوقت نفسه جعلت مهمتها في الدنيا، تحقيقَ غايةٍ كبرى، هي رفعة الإنسانية بالهدى والخير والعدالة، وإقامة بناء الأمة المسلمة، الوصية على الناس، المبلّغة لرسالة الله جل شأنه، المجاهدة لنشر نورها، الساهرة عليها، الحامية لها أن يطفئها الحاقدون والضالّون، الآمرة بالمعروف، الناهية عن المنكر.
فالبطولة في الإسلام إذن، بطولة رسالة جليلة، وهدف كبير، وغاية شريفة، من أجل إعلاء كلمة الله عز وجل، دون التماس لشهرة أو مجد أو مطمع في الحياة الدنيا.
والبطولة الإسلامية لم تكن مقصورةً على طبقة خاصة من القادة والشجعان، بل كانت في الكثرة الكاثرة من الأمة، رجالاً ونساءً، شيباً وشبّاناً، مشهورين ومغمورين، ومن يدرس التاريخ الإسلامي تستوقفه هذه الحقيقة بقوتها وجلائها، وكثرة الشواهد عليها.
قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: بتنا وباتوا، وللمسلمين دويٌّ بالقرآن، كدويّ النحل، وبات المشركون في خمورهم وملاعبهم. وهو قول يكشف عن البطولة العبادية السامية في الليل، لتنطلق قوةً قتاليةً رائعةً في النهار، والمسلم يجاهد حين يعبد، ويعبد حين يجاهد، لا فرق بين الحالين، كما أنه يكشف عن معنى الكثرة في البطولة، حيث المسلمون جميعاً عبّادٌ في الليل، فرسانٌ بالنهار.
ومن أبرز مزايا البطولة الإسلامية، إخفاء البطولة، وهي ميزة تنطلق من هدف البطل المسلم، الذي يريد رضوان الله تعالى ومثوبته، ولا يبالي في قليل أو كثير، بالذي يقوله الناس.
وفي تاريخ الإسلام صور كثيرة، ونماذج متعددة، من أشهرها قصة ذلك المجاهد الشجاع، الذي فتح للمسلمين نقباً في حصن العدو، كان لهم سبباً في النصر المبين، فعل ذلك مستخفياً حتى لا يعلم به أحد، فسُرَّ به الناس، وبحث عنه القائد دون جدوى، وأعجب به أيما إعجاب حتى كان من دعائه: اللهم احشرني مع صاحب النقب.
ولقد عُرِف عن العالم الكبير، المحدِّث الزاهد، والتاجر النشيط، عبد الله بن المبارك أنه كان يخرج إلى ثغور الروم للجهاد، ويبارز بعض شجعان العدو، وهو مستخفٍ ملثم، حريص على ألّا يعلم بموقفه أحد من المسلمين.
لقد فهم المسلمون، المثل الأعلى للبطولة فهماً مختلفاً عن المثل الأعلى لها في الأمم والحضارات الأخرى، وجمع هذا المثل في أخلادهم بين الحق والعدل، والقوة والرحمة، والصبر والإيمان، ذلك أن العمل كله في الإسلام، والبطولة جزء منه، يستهدف رضوان الله تعالى.
ومن هنا اختلف المثل الأعلى الإسلامي، عن المثل الأعلى لبطولات اليونان والرومان وعرب الجاهلية وغيرهم؛ إذ إن البطولات الأخرى قامت وتقوم على المطامع والاستعلاء، والسيطرة والشهرة، والإغراق في المتع واللذات، والمبالغة في البطش والقسوة وسفك الدماء دون أي ضابط تشريعي، أو مانع من عقيدة، أو توجيه من أخلاق.
ومن أهم مزايا البطولة الإسلامية أنه لا انفصال فيها بين الوسيلة والغاية، فإذا كان البطل الآخر يتذرع من أجل النصر بأي وسيلة مهما كانت خسيسة، كالفسوق والفجور، والغدر وغير ذلك، فإن البطل المسلم لا يتذرع إلى النصر إلا بالوسائل النظيفة، فهو شريف في خصومته في الحرب والسلم، مقيّد بأوامر الإسلام وضوابطه في كل ما يفعل ويدع، ولذلك يرى في النصر الذي يتم بوسيلة خسيسة، هزيمةً حقيقية، فالإسلام لا يعترف ولا يقر ذلك المبدأ الظالم المتخلّف الذي سبّب للبشرية كثيراً من البلاء والشرور والفتن والكوارث وهو ما عُرف ونُسِب إلى السياسي المشهور مكياڤيلِّي: "الغاية تبرّر الوسيلة". فالغاية والوسيلة في الإسلام مترابطتان متوحدتان، ولا بد من نقائهما وصحتهما معاً ليكون العمل إسلامياً حقاً.
ولقد كان لتوجيهات الإسلام هذه أثر بالغ عملي ذو فائدة واسعة عميقة جداً، ويكفي أن نذكر ها هنا قصة سمرقند التي فتحها قتيبة بن مسلم الباهلي دون إنذار أهلها، فشكاه هؤلاء إلى عمر بن عبد العزيز الذي حكم قاضيه بإخلاء المدينة، فأخليت، فأسلم أهلها. إنها مثلٌ فذٌّ للبطولة الإسلامية على عدد من المستويات، كما أنها نموذج رائع للطهر المطلوب من المسلم، في غاياته وأساليبه على السواء.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق