أعظم التحديات تطبيق المبادئ والأفكار
يلاقي أصحاب الدعوات الخيّرة منها والشريرة كثيراً من التحديات والصعاب المتنوعة قبل نجاحهم وبعد نجاحهم. لكنَّ أعظم هذ التحديات وأصعبها على الإطلاق هي قدرتهم على تطبيق أفكارهم ومبادئهم، بعد أن يحققوا النجاح في الوصول إلى السلطة، فهم إذ ذاك سيواجهون الامتحان الجاد لتنفيذ ما كانوا يقولون.
وهذا التنفيذ ليس أمراً سهلاً، فهو يحتاج إلى درجة بالغة من الوعي والفهم فيهم، ويحتاج إلى أن تكون فكرتهم نفسها قابلة فعلاً للتطبيق، ويحتاج إلى أن يكون دعاتها –وقد آلت إليهم الأمور– أهلاً لإنفاذ ما كانوا يقولون، بحيث يسارعون إلى إنفاذه الفعلي، دون أن تصرفهم عن ذلك شهوة السلطة والغلبة ولذتها، وما يشبهها من صوارف.
وحين ندرس التاريخ الإسلامي، نرى أن المسلمين الأوائل، واجهوا هذا التحدي الكبير، بعد إذ مكّنهم الله عزَّ وجل في الأرض، واجتازوه بنجاح باهر ليس له مثيل. إنهم حين أسّسوا دولتهم نفذوا فعلاً ما كانوا يدعون إليه، وشادوه على منهاج دينهم وأساس عقيدتهم، وبذلك خرج الناس بهم فعلاً، من عبادة العباد، إلى عبادة خالق العباد وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. وتلكم الثلاث هي الغايات الأساسية من الفتح الإسلامي كما وضّح ذلك رِبْعِيُّ بنُ عامر رضي الله عنه لرستم قبيل القادسية.
لقد شاد المسلمون الأوائل دولتهم، فلم تكن للبغي أو الجور، ولا للظلم أو الطغيان، ولا لتتحكمَ طائفة من الناس في رقاب العباد قهراً وتسلطاً وإذلالاً أياً كانت هذه الطائفة، بل كان الأمر في دولتهم الراشدة، وكان النهي لله عز وجل من خلال تطبيقهم شَرْعَ اللهِ وإنفاذه في جميع أمورهم.
فها هو الخليفة العظيم أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه يقول في خطبته التي ألقاها عقب اختياره خليفةً على المسلمين، وهي بمثابة بيان وزاري كما نقول بلغة اليوم: "أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم". وهي كلمة شديدة الإيجاز، شديدة الغنى بالرائع الصادق من كريم المعاني، ونبيل المبادئ والقيم والموازين.
وهذا هو عمر بن الخطاب يقول لعمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقد عدا ولده على غلام قبطي فضربه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!؟". إن الخليفة العظيم يحاسب أحد قادته العظام بسبب جريرة لولده، لأنه يعلم أن الولد فعل ما فعل استناداً إلى سلطان أبيه. وربما كان كافياً أن يحل العقاب بابن عمرو، دونَ أنْ يُحاسَبَ أبوه. لكنّ عمر العظيم يريد أن يُقر في الأرض موازين الإسلام العادلة الراشدة، فكان أن حاسب الابن والأب معاً، وفي هذا من السمو والرفعة، وتحري العدل بغاية الدقة، ما يشكل نموذجاً هادياً راشداً من أعلى طراز وهذه واحدة.
أما الثانية فهي أن الخليفة كان يحاسب عمرواً، وهو رجل ضخم في الدولة الإسلامية، وحسبك أنه فاتح مصر، وأنه قبل ذلك أحد قادة الفتوح في الشام، لكنَّ هذا كله لم يجعله بمنجاة من الحساب والعقاب، وأنّى له النجاة!؟
إن موازين الإسلام في الأرض هي موازينه في السماء، وهي من الطهر والاستقامة، والشدة والصرامة، والحزم والعدالة، بحيث لا تحابي أحداً من البشر كائناً مَنْ كان، خاصة أن عمر العظيم هو المسؤول عن تطبيقها وإنفاذها.
وأما الثالثة فهي أن عمر كان يحاسب واحداً من أكبر ولاته، فابن العاص حاكم مصر كلها، ومصر بلد عظيم ربما تغري مَنْ يحكمها بالتمرد والخروج، لكن ذلك لم يجعل ابن الخطاب ينثني عن عزمه أو يلين في محاسبة فاتح مصر وحاكمها في وقت واحد.
أما الرابعة فهي أن الشاكي غلام من البلد الذي غُلِبَ وانقاد لأمر الفاتحين وخضع لدولتهم، ومع ذلك فهو يبادر إلى الشكوى على الرغم من أنه ظلّ على دينه الأول ولم يتبع الإسلام دين الفاتحين. أضف إلى ذلك عِظَمَ المسافة بين مصر والمدينة المنورة حيث محل الشاكي ومحل الخليفة، وأضف إليه أيضاً قدرة الغلام القبطي على الوصول بشكواه إلى سلطة الخليفة، وهي أعلى سلطة في الدولة الإسلامية، وأضف إليه أيضاً أن الغلام كان يشكو أكبر سلطة في بلده ممثّلةً في عمرو بن العاص.
وقد تبدو هذه الأمور عادية، لكنها في الحقيقة ضخمة جداً تتقطع دونها كثير من الأعناق، وتبيد كثير من الحقوق، وتموت كثير من النفوس في غير الإسلام الذي يسمو بدولته ويعلو بها، ويرفعها إلى آفاق كريمة شمّاء.
وحين يتمثل المرء هذا جيداً ويسبر أغواره، تنكشف له ضخامة النُقْلَة التي أحدثها الإسلام، لا في نفوس المسلمين فحسب، بل في نفوس غيرهم من رعايا الدولة الإسلامية أيضاً، حتى بات بوسع أحدهم أن يصل إلى قمة الدولة ليشكو إليها قمة المسؤولين في بلده من أجل ضربة صغيرة، يقوم أي شرطي في العالم في كل يوم بفضِّ النزاع في مثيلات لها بل فيما هو أكبر بكثير.
إن في الذي فعله الغلام القبطي لدليلاً ضخماً لا يُدفع أن رعايا الدولة المسلمة من غير المسلمين كانوا واثقين من جدية المبادئ الإسلامية وصدق القائمين عليها.
وها قد استطاعت جولةٌ صغيرة لقلمٍ متواضع أن تستخلص أمثال هذه المعاني والدلالات من قصة عَمْرو وعُمَر، ترى كيف لو انبرى لها قلم آخر أعمق وأذكى وأقدر على الإبانة والإعراب!؟
إن المرء على يقين كبير في أن كلمة عُمَر لعَمْرٍو: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!؟" لو كانت لغيرنا لأكثروا فيها الكلام، ولجعلوها مُفتتح عصر جديد في حقوق الإنسان والعدالة والمساوة في تاريخ البشرية.
وأخيراً فإن في قصة عَمْرو وعُمَر دليلاً عملاقاً على أن المسلمين الأوائل جازوا بنجاح أعظم التحديات التي واجهتهم، وهي قدرتهم على تطبيق أفكارهم عملياً في عالم الواقع بعد أن تؤول إليهم الأمور.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق