الخميس، 7 يوليو 2022

خطبة جمعة على ظهر سفينة

خطبة جمعة على ظهر سفينة

     أثر القرآن الكريم في النفوس حقيقة مقررة، وفِعله في القلوب غريب وعجيب، ولكن الأغرب والأعجب أن يثير القرآن الكريم مشاعر امرأة غير مسلمة، لا تعرف اللغة العربية من قريب أو بعيد، ويجعل عينيها تفيضان بالدمع.. ومع ذلك نحتاط فنقول: لا عجب ولا غرابة!.. فالقرآن كلام الله، وهو موجّه للناس جميعهم.

     يحكي الشهيد العالم الأديب سيد قطب رحمه الله، قصة جميلة في هذا المجال، عاشها على ظهر سفينة تتجه به إلى أمريكا يوم سافر إليها، وقد ذكرها في تفسيره في ظلال القرآن، وذلك في آخر تفسير قوله تعالى‏: ﴿أمْ يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ (يونس:38)، فيقول:

     "أذكر حادثاً وقع لي وكان عليه معي شهود ستة، وذلك منذ نحو خمسة عشر عاماً... كنّا ستة مسلمين على‏ ظهر سفينة مصرية تمخر عباب المحيط الأطلسي إلى‏ نيويورك، من بين (120) راكباً وراكبة أجانب، ليس فيهم مسلم.. وخطر لنا يوم الجمعة أن‏ نقيم صلاة الجماعة في المحيط على‏ ظهر السفينة! واللَّه يعلم -أنّه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة لذاتها أكثر ممّا كان بنا حماسة دينية إزاء مبشِّر كان يقوم بمزاولة عمله على‏ ظهر السفينة، وحاول أن يزاول تبشيره معنا!... وقد يسَّر لنا قائد السفينة -وكان إنجليزياً- أن نقيم صلاتنا، وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمتها -وكلهم نوبيون مسلمون- أن يصلي معنا من لا يكون في (الخدمة) وقت الصلاة!. وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً، إذ كانت المرة الأولى‏ التي تقام فيها صلاة الجماعة على‏ ظهر السفينة... وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة، والركاب الأجانب معظمهم متحلقون يرقبون صلاتنا، وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على‏ نجاح (القدّاس)! فقد كان هذا أقصى‏ ما يفهمونه من صلاتنا! ولكن سيدة من هذا الحشد -عرفنا فيما بعد أنّها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم تيتو وشيوعيته!- كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع، ولا تتمالك مشاعرها.. جاءت تشد على‏ أيدينا بحرارة، وتقول -في إنجليزية ضعيفة-: إنّها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح!.. وليس هذا موضع الشاهد في القصة... ولكن ذلك كان في قولها: أي لغة هذه التي يتحدث بها (قسيسكم)!؟ فالمسكينة لا تتصور أن يقيم (الصلاة) إلّا قسيس -أو رجل دين- كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة! وقد صححنا لها هذا الفهم! وأجبناها، فقالت: إنّ اللغة التي كان يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب!.. وإن كنت لم أفهم منها حرفاً... ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول: ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه.. إنّ الموضوع الذي لفت حسي، هو أن (الإمام) كانت ترد في أثناء كلامه -بهذه اللغة الموسيقية- فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه! نوع أكثر موسيقية وأعمق إيقاعاً.. هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث فيَّ رعشة وقشعريرة! إنّها شيء آخر! كما لو كان الإمام مملوءاً من روح القدس! حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها!. وتفكرنا قليلًا، ثم أدركنا أنّها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة! وكانت -مع ذلك- مفاجأة لنا تدعو إلى‏ الدهشة، من سيدة لا تفهم مما نقول شيئاً!".

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة