شخصية الخديوي إسماعيل والتغريب
يستطيع الدارس أن يجد شخصية الخديوي إسماعيل، نموذجاً صارخاً ومبكراً للعمل في خدمة قضية "التغريب" وذلك على مستوى الحكّام. ومن خلال هذا النموذج يضع الإنسان يده على بعض الخسائر الكبيرة التي أحلّها المستغربون بأمتهم.
رُبِّيَ الخديوي إسماعيل في فرنسا، واستُدعِيَ لحكم مصر من هناك قبل أن يتم تعليمه فيها، وقد عاد من باريس وقد ذابت كل حرارة للإسلام في صدره، وبَهَتَ أيُّ ولاءٍ يشدّهُ إلى دينه، ذلك أن صالونات باريس ومنتدياتها الثقافية والاجتماعية، وصِلاتُه برجالها ونسائها، قد صاغته صياغة جديدة غريبة تماماً عن الأمة التي ابتليت به، وكان مبهوراً بما رأى وسمع وقرأ في فرنسا، ولم تكن له جذور دينية قوية تحميه من الإعصار العنيف الذي تعرّض له، فلا غرابة إذن أن يعود من باريس إلى مصر، وقد صار الغرب قبلته الفكرية والثقافية، ونموذجه الأعلى للحياة، ولا غرابة أن تصبح الأمنية التي تملك عليه أقطار نفسه هي أن يجعل مصر قطعة من أوربا كما صرّح بذلك مراراً.
وكأي مقلد متعجل مبهور فاقد لأصالته أخذ من أوربا الشكل والمظهر، وركّز على استيراد نقاط الضعف في الحضارة الغربية، وحرص على القشور الفارغة، فأسرف إسرافاً فاحشاً في المباني المترفة، وإقامة الحدائق، ونحت التماثيل، وبناء المسارح ودُور الغناء وما إلى ذلك.
وقد أغرق هذا الحاكم الغِرُّ بلاده في الديون وفوائدها الباهظة بسبب تصرفاته الجاهلة. ويذكر التاريخ كيف أنفق المبالغ الطائلة على حفل افتتاح قناة السويس عام 1869م، حتى اضطر إلى بيع حصة مصر إلى ألدِّ أعدائها، وكيف أنفق على بناء دار الأوبرا في مصر على ما فيها من فقر وجهل وجوع ومرض المبالغ الكثيرة، واستقدم لها المغنِّين والمغنِّيات، واستأجر أشهر موسيقيّي أوربا ليضعوا لها الألحان.
وتعد المدة التي قضاها الخديوي إسماعيل في حكم مصر، بين عامي 1863- 1879م؛ من أخطر المراحل المبكرة التي كانت البدايات الأولى في تدمير الشخصية الإسلامية وإذابتها، وإفقادها خصائصها، وحلّ عروبتها، وإقصاء الشريعة عن الحياة والحكم إقصاءً غير مسبوق في تاريخ المسلمين، وقد كان إسماعيل أول من تجرّأ على محاربة الشريعة بهذا القدر من الإبعاد لها، والتأصيل والتثبيت لشرائع الكفار.
وفي إطار مساعيه هذه أنشأ أول مدرسة للحقوق على النمط الفرنسي لتكون تدعيماً عملياً لوجهته الاستبدالية، وتأكيداً لقبلته الفكرية الجديدة، وقد صارت هذه المدرسة فيما بعد، المحضن الأساسي المبكر لتخريج أجيال مفتونة بالثقافة الغربية، مبتوتة الصلة بشريعة الإسلام، لصيقة بشرائع الكفار، ثم طُوِّرت هذه المدرسة لتصبح كلية، ثم كليات واسعة النطاق، تسنّم كثير من خرّيجيها مراكز مهمة في طول البلاد وعرضها.
وقد تلاقت رغبة هذا الخديوي برغبة أخرى أذكى وأدهى، وهي رغبة أعداء الإسلام الطامعين في إقصائه عن الحياة، وقد وجد هؤلاء الأعداء في شخص هذا الخديوي معقداً من معاقد آمالهم التي يريدون لها أن تتحقق، فكان التعاون والتنسيق، وكان التوجيه الخفي والظاهر، الصريح والمُبطّن.
ويروي محمد طلعت حرب، الاقتصادي المصري الشهير واقعة لها دلالاتها في ذلك التلاقي المُشار إليه، وذلك في كتابه "تربية المرأة والحجاب" الذي نُشِر عام 1899م رداً على كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" في عهد عباس الثاني حفيد إسماعيل مما يجعل للرواية قيمة أوثق.
وهذه الرواية هي أن إسماعيل لمّا أراد أن ينفصل بمصر عن الدولة العثمانية، وعدَ ملوكَ أوربا إن أيّدوه من أجل تحقيق هدفه أن يبدّل أحكام القرآن فيما يتصل بالحياة السياسية والاجتماعية، ويفصل السياسة عن الدين، ويطلق الحرية للنساء؛ بحيث يسِرْنَ في أثر المرأة الغربية، وينقل إلى مصر معالم المدنية الأوربية.
جاء ذلك في كتاب الدكتور ماهر حسن فهمي عن قاسم أمين، في الصفحة (65) من طبعة سلسلة أعلام العرب للكتاب المذكور.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق