وا إسلاماه!
بلغت موجة التتار منتهى عنفها وزخمها وضراوتها عام 656هـ= 1258م؛ حين وصلت بغداد فاجتاحتها، وقتلت خليفة المسلمين فيها، وفتكت بالمدينة فتكاً ذريعاً جداً، فكانت نكبة بغداد عاصمة الخلافة من أفدح نكبات التاريخ وأشنعها.
وبعد السقوط المريع لبغداد صار واضحاً جداً أن مركز الثقل الجديد لمقاومة التتار انتقل إلى القاهرة التي كان يتولى السلطة فيها أمير مملوكي شجاع هو السلطان المجاهد قطز؛ الملقب بالملك المظفّر، الذي يُعَدُّ بلا جدال مَعْلماً بارزاً من معالم الجهاد في تاريخ المسلمين.
وامتدّت أنظار التتار إلى مصر، وكتبوا إلى قطز محذّرين منذرين، فأشار علماء المسلمين عليه ألّا يضيع الوقت، وأن يأخذ بأسباب الجد والاجتهاد والجهاد، وطالبوا بإعلان الجهاد، والأخذ بزمام المبادرة لأنه "ما غُزِيَ قومٌ في عقر دارهم إلا ذلّوا"[1]، ولأن اتباع مبدأ "ذات الشوكة"، وملاقاة العدو هو الحل المشرّف لسلطان القاهرة وساكن القلعة.
وانتشر العلماء في البلاد يزيلون أركان الوهن والفساد، ويطهّرونها من الضعف والترف، ويجتثّون منها كل ما يُغضب الله عز وجل، ويحرّكون وجدان الأمة وضميرها بعقيدة التوحيد وراية لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويحثّونها على الجهاد، ويشجّعونها على البذل والفداء.
وحين اكتملت العدة عبرت جيوش الإسلام بقيادة قطز وحوله العلماء وقادة المماليك سيناء تسبقهم فرق خاصة من الفدائيين كانت تُعرف باسم "الجهادية". ودخلت هذه الجيوش بلاد الشام الجنوبية باسم الله وعلى بركته، وعلى نيّة الجهاد في سبيله، وعَفَّرَ قطز وأمراء المماليك وجوههم بالتراب سائلين الله عز وجل أن يكتب النصر للإسلام والمسلمين.
وكانت "وا إسلاماه" صرخة الحرب وشعارها وهتافها المدوّي، كانت تهزّ القلب، وتفجّر الشجاعة، وتستنهض العزيمة، وتستثير كوامن البطولة وحبّ الموت. كانت "وا إسلاماه" كلمة وعى حقيقتها ومغزاها البربريُّ والسوداني، والتركي والعربي، والكردي والفارسي، وغيرهم من مختلف الألسن التي ضمّها جيش الإسلام الماجد يومذاك.
وفي الثالث من أيلول/ سبتمبر (1260م= 658هـ) دارت رحى معركة عين جالوت قاسية عنيفة رهيبة، وانتصر الإسلام نصراً حاسماً خالداً. ودُفِنَ في ساحة المعركة ذلك القول الانهزامي الاستسلامي الذي سار من أقاصي آسيا إلى بلاد الشام وهو "إذا جاءك أن التتار انهزموا فلا تصدّق".
---------------
[1] قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في تعليقٍ له على مقالة الشيخ أحمد شاكر حول تصحيح الكتب (ط: دار البشائر الإسلامية، بيروت): هذا من قول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في خطبة طويل. وجاء في رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية إلى السلطان الملك الناصر (ص16) مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالله أعلم بثبوته. اهـ. https://al-maktaba.org/book/31615/32132
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق