عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم
كثيرون من الناس المشهورين الذين يحتلون في الدنيا مراتب كبيرة، ويبرزون فيها علماء وقادة، وساسة ومفكرين، لا يحتلّون في منازلهم نفس الدرجة من العظمة والإعجاب التي يحتلونها خارجها. والسبب أنهم يظهرون للآخرين بصورة لمّاعة جذابة تضفي عليهم هالاتٍ من الإكبار يصل إلى حد التقديس حيث يُحِلُّهم أتباعُهم منزلةً ساميةً عالية، يرفعونهم فيها إلى أعلى الذرى، ذلك أنهم لا يعلمون دخائلهم وحياتهم الخاصة، وما قد يكون فيها من بُعْد عمّا يقولون، وإنما يكتفون بما يعرفونه عنهم في حياتهم العامة، وتتكفل خيالاتهم، من خلال اتصال الأمل بالواقع، وتداخل الرغبة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، برسم صورهم في حياتهم الخاصة لا كما هي حقاً بل كما يطيب لهم أن يتصوّروها.
لكنّ هذا لا يحدث لهؤلاء العظماء والمشهورين في داخل بيوتهم لسبب بسيط وهو أنّ ذويهم يعرفونهم عن قرب، ويشهدون نقاط ضعفهم، وزلاتهم، ومباذلهم، لذلك لا يمنحونهم من الإكبار والإعجاب ما يمنحهم إياهم الغرباء البعيدون، ولعل هذا هو المعنى الذي دفع الكاتب الفرنسي المشهور فولتير إلى أن يقول: إن الرجل لا يكون عظيماً في داخل بيته ولا بطلاً في أسرته.
تُرى هل ينطبق هذا الأمر على الرسول الكريم ﷺ؟
من خلال دراسة سيرته الشريفة بوسع الإنسان أن يقول: لا، فقد كان ﷺ يتمتع بمنزلة عالية جداً من الحب والإكبار، والإعجاب والتقدير، والثقة والتصديق، في خارج بيته وفي داخله على السواء.
لقد كان المكان الذي احتلّه من قلوب صحابته الكرام مكاناً ضخماً جداً، وهو بالضبط ما احتلّه في قلوب ذويه الذين كانوا يعيشون معه، ذلك أنّ حياته الداخلية لم تكن تناقض حياته الخارجية قط، فقد كان فيهما على المستوى الرفيع الكريم هنا وهناك.
ولقد كان ذوو الرسول الكريم ﷺ والمقيمون معه والقريبون منه من أشد الناس إعجاباً به، وإيماناً بدعوته، وتصديقاً لها، وحماسةً لنصرتها، ورغبةً في فدائه وفدائها بكل غالٍ ونفيس، وفي هذا دليل عظيم على صدقه ﷺ، وخاصة أن أول من أسلم هي السيدة الجليلة العاقلة الحصيفة خديجة رضي الله عنها وهي زوجته الكريمة، فقد رأت منه ما حملها على تصديقه. وحليلةُ المرء بشكل خاص أكثر الناس علماً بباطن الإنسان وعيوبه وهناته، وقد صرحت بذلك حين أخبرها بالوحي فجاء في رواية البخاري لخبر الوحي: (فَرَجَعَ بهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حتَّى دَخَلَ علَى خَدِيجَةَ، فَقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، فَقالَ: يا خَدِيجَةُ، ما لي؟ وأَخْبَرَهَا الخَبَرَ، وقالَ: قدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي، فَقالَتْ له: كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ...).
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق