حوار قادة المسلمين والفرس في القادسية
في الحوار الذي كان يجري بين عدد من قادة المسلمين، وبين عدد من قادة الفرس والروم قبيل المعارك المشهورة أيام الفتوح الإسلامية كالقادسية واليرموك، كان يظهر جلياً التحول الهائل الذي أصاب العرب بعد إذ أكرمهم الله تعالى بالرسالة، يظهر ذلك في الجانبين، المسلم وغير المسلم.
وفي الروايات التاريخية الموثوقة عن أخبار الفتوح ما يؤكد سَعَةَ النُقْلة التي أحدثها الإيمان في عالم الواقع، وفي نفوس العرب، وفي نفوس من كانوا يحاربون العرب من فرس وروم.
والشواهد على ذلك كثيرة جداً، وحسبك أن العرب الذين كانوا لا يجرؤون على التصدي لدورية ضئيلة من دوريات الفرس والروم، عمدوا إلى حرب هاتين الإمبراطوريتين في وقت واحد حرباً ضروساً جعلت هرقل يقول عنهم: إن هؤلاء لو استقبلوا الجبال لأزالوها، وما من ريب أن ذلك كله يعود إلى الإيمان الذي صاغ هؤلاء الرجال صياغة نادرة عجيبة.
***
فقبيل أن تنشب معركة القادسية، كانت المفاوضات تجري بين المسلمين ورستم، وكان رستم يُطيل أمد المفاوضات، لأنه دخل الحرب كارهاً، فكان يأمل أن يصل مع المسلمين إلى اتفاق أو يحدث أمر من الأمور فتكون النتيجة أن تمتنع الحرب التي أكرهه يزدجرد على قيادة الفرس فيها، والتي كان منها على وجل عظيم. وخلال هذه المفاوضات كانت الوفود المسلمة تذهب إلى معسكر رستم تحدّثه حديثاً عجباً، لا عهد له به، ولا عهد للحروب والتواريخ به من قبل. وذات مرة كان رَبْعي بن عامر رضي الله عنه بطل واحدة من هذه المفاوضات المؤمنة حين انتُدِبَ لذلك.
قال ربعي بن عامر لرستم حين سأله هذا عن سر خروجهم من بلادهم للحرب والجهاد: إن الله ابتعثنا لنخرج مَنْ شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
إنها عبارة وجيزة جداً، هذه التي قالها ربعي، لكنها مع ذلك شديدة الغنى، شديدة التركيز، تدل على درجة من العمق والسهولة والسلامة بالغة جداً، تمكّن فيها الفهم السليم في ذلك الجيل الرباني القرآني الفريد وتأصّل، بحيث بات بوسعه أن يحدد غايته في الحياة، ووظيفة الإسلام كرسالة، ودور الفتوح كحركة تحرير كبرى، في كلمات قلائل تغني عن مجلدات كبار، حدد فيها ربعي مهمته ومهمة مَنْ معه، والغاية البعيدة العميقة الخطيرة من حركة الفتوح، والوظيفة الكبرى للإسلام في الحياة بثلاثة أهداف أساسية ضخام.
الهدف الأول: إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وهو أمر، غاية في الخطورة والأهمية والجلال. وربما تساءل أحدهم: وهل كان الناس يعبدُ بعضهم بعضاً؟ والجواب في إيجاز بالغ: أن الناس في ذلك العصر، وفي عصرنا هذا، وفي كل عصر، يعبد بعضهم بعضاً حين لا يعبدون الله حقاً، فمن ارتضى أن يكون تابعاً لأحد من الناس كائناً من كان، يشرّع له وينظّم، ويصرفه عن منهج الله بمنهج من عنده، وعن هداية الله بطاغوت من لديه، يكون قد صار عبداً له ما دام قد رضي لنفسه هذا المآل المحزن الوخيم. ولن ينجو الإنسان بحق من عبوديته للعباد إلّا إذا أبى شرعهم ورفض مناهجهم، وانصاع لأمر الله عز وجل وحده، وشرعه ومنهجه، وهذا هو معنى الإسلام؛ أي التسليم التام المطلق لله جل جلاله.
الهدف الثاني: هو إخراج الناس من ضيق الدنيا إلى سعتها، والحقيقة أن الدنيا هي الدنيا من حيث إنها زمان معيشة الناس ومكانها، فبهذا المعنى لا تتسع ولا تضيق، وإنما هي تضيق وتتسع بحسب أهدافنا فيها، وآمالنا وتصوراتنا، وموازيننا وقيمنا، وأخلاقنا ومُثلنا. فإن كان هذا كله محصوراً في اللباس والطعام، والبيت والعمل، والنزهة واللذائذ، والمتاع والملهِيات، وما إلى ذلك من مطامح مادية خابية، فإن الدنيا ها هنا تكون ضيقة كثيراً، وسوف تثقل على الإنسان، ذلك أن للإنسان فطرة تتحرك، وأشواقاً ورغائب، وحنيناً ونوازع، تتخطى حدود المطالب المادية، وسجنها الضيّق الكئيب. فإذا ظل الناس ضمن هاتيك الحدود الضيقة والأسوار الخانقة؛ فإن الدنيا ضيّقة جداً، وتلك هي حالتهم حين ينصرفون عن منهج الله إلى مناهج البشر.
أما إذا كان الناس ينظرون إلى هذه الدنيا على أنها رحلة وتمضي، أيام وتنقضي، وأنها يجب أن توظف لخدمة الآخرة من خلال الالتزام بشرع الله، وأن الآخرة أبقى وأطيب، وأحسن وأنظف، وأنه ينبغي أن تنصرف الهمة إليها، والعمل من أجل الفوز فيها، وأن هذا من لوازمه أن ينجو المرء من إسار المادة، ورقّ المطالب الدنيوية التافهة، وأن ينطلق في الحياة على هدى ونور، وصدق وإيمان، ومودة وحنان، ونبل وإيثار، واستقامة ومروءة وما إلى ذلك، فثمة الحياة التي تتسع وتطيب، ويحلو العيش فيها ويزكو، وتسمو الأهداف فيها وتعلو. ومثل هذه الحياة لا تكون إلّا في الإسلام الذي يحرص على أن يكون أتباعه أهلاً لمثل هذه التصورات الكبرى والمستوى الرائع تهذيباً وتربية، وسموّاً ورفعة، وامتلاكاً للأسباب التي تجعل الواحد منهم بحق خليفةً لله على الأرض.
الهدف الثالث: هو إخراج الناس من جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام. لقد شهد التاريخ كثيراً من صور الجور والعدوان والاضطهاد باسم الدين قبل عصر ربعي وخلاله وبعده، تنصبُّ على رؤوس المخالفين.
أما الإسلام فقد جاء يعلن أن الناس أحرار فيما يعتقدون: ﴿لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي﴾ [البقرة:256]، أعلن الإسلام ذلك، ثم انطلقت مواكبه إلى الدنيا لتحكمها بالإسلام، وتسقط الأنظمة الجاهلية الجائرة التي تحول بين الناس وبين اتّباع ما يعتقدون. وبعد ذلك، فَمَنْ دخل الإسلام، فما أعظم فرحة المسلمين به!.. وهو أخوهم العزيز، له ما لهم، وعليه ما عليهم.
ومن اختار سوى ذلك؛ فله ما اختار، وهو آمنٌ على نفسه وأهله، وماله ومعتقده في ظل الدولة المسلمة التي تؤمن أنه كافر، وأنها وحدها على الحق. ومع ذلك تَبْسُطُ عليه حمايتها ورعايتها، وهي توقن أنه من حطب النار. وإذن فلم تكن هناك أي مبالغة في أن يهتف ربعي بن عامر بأن حركة الفتوح كانت تهدف من جملة ما تهدف إليه إلى إخراج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام.
وبعد؛ فما أعظم ما قاله ربعي بن عامر!.. وما أغنى وأجمل الوقوف عنده!.. إن له كثيراً من الدلالات يقف في طليعتها عظمة المستوى الإيماني الذي كان عليه ذلك الجيل الرباني القرآني الفريد؛ فكرياً ونفسياً.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق