شكيب أرسلان والحضارة الغربية
يقول الأمير شكيب أرسلان في وصف الرجل الغربي، وهو الذي عاش طويلاً في الغرب، وعرف الناس هناك بدِقّة: "إنّ الإفرنجي هو الإفرنجي، ما تغيَّرَ في طبعه، فهو اليوم كما زحف إلينا قبل 800 عام بما فيه من الظمأ إلى الدماء، والقَرَم إلى اللحم، وإنّ المدنية التي يتذرع بدعواها إنْ هي إلا غطاء سطحي لِما هو كامنٌ في طبعه، متهيئ للظهور لأدنى حادث، فالمدنية العصرية لم تزد الفرنجيَّ إلا تفنّناً في آلات القتل، وفصاحةً في التمويه، وتسميةِ الأشياء بغير أسمائها".
وقبل أن ندخلَ في دراسة هذه الشهادة الدقيقة، لا بد لنا من تقرير حقيقةٍ حضاريةٍ كبيرة، وهي أنّ الغربيَّ بالمعنى الحضاري، هو إنسانُ الحضارة الغربية الذي وضعَ ثقافتَها وتبنّاها أيّاً كانت انتماءاته السياسية التي يتوزّع الناسُ معها في دولة وأخرى. فالشرق الشيوعي كلّه جزء من الحضارة الغربية، وأمريكا كذلك جزء من الحضارة الغربية، وأيضاً أوربا بطبيعة الحال.
ومعنى ذلك أنّ الدائرة الحضارية للغربي أوسع بكثير من دائرته الجغرافية، والمُعوّل ها هنا على الأصول الفكرية والعقائدية والأخلاقية، وموازين السلوك ومعايير الخير والشر، والقيم والمُثل، التي يشترك فيها أبناء الحضارة الغربية جميعاً، وإنْ فرّقتْ بينهم الحدود الجغرافية والتقسيمات السياسية.
وكثيرةٌ هي الشواهد التي تكشف بدقة عن صحة رأي شكيب أرسلان في الرجل الغربي. لقد تمدّن هذا الرجل حقاً، وحقق إنجازات كثيرة، لكنه في أعماقه لا يزال شديد العنف والضراوة والبطش حين يتعامل مع خصومه، وما نبأ الحربين العالميتين الهائلتين عنا ببعيد، وقد كانتا تدور أساساً في بلاده وبين طوائف متقاتلة متصارعة من أبنائه.
أمّا إذا وصل الأمر إلينا نحن -المسلمين- فإن الموقف يختلف، ذلك أن الضراوة تزداد، والعنف يكثر، والبطش يتضاعف أضعافاً هائلة. وحين وقعت ديار العالم الإسلامي في قبضة الرجل الغربي فعل بها الأفاعيل، حتى إن محاكم التفتيش في الأندلس التي أنشئت عقب سقوط الحكم الإسلامي فيها فعلت بالمسلمين من الأهوال، وصبّت عليهم من الكوارث ما جعلها تصبح أشنع ما جرى في تصفيات الخصوم، وأرهب مثل يُضرب في هذا المجال.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق