سليمان الحلبي طالب العلم المجاهد
لقد كان حرصُ المسلمين على دينهم، وتمسكهم به، ويقينهم الراسخ بصحة ما فيه، واستعلاؤهم على الآخرين بالحق الذي يملكون، وتحويلُهم الإيمانَ من قناعةٍ عقلية وجدانية إلى ممارسة عملية تطبيقية، السببَ الذي يقف وراء انتصاراتهم الكبرى أيامَ الامتداد والزحف والتقدم، وكان أيضاً السببَ الذي يقفُ وراءَ تماسكِ مجتمعهم أيامَ التوقف والانحسار، وكان كذلك عِلَّةَ جهادهم الضخم الواسع، ومقاومتهم الفذة الشجاعة، أيامَ أنْ اقتحم العدوُّ دارَهم، ووطئ بخيله ورَجِلِه بلادهم، وسلب خيراتها، واستباح حرماتها، وبغى فيها وظلم، وعدا واستأسد.
تلك حقيقة تكاد تحتل مكانةَ البداهةِ لمن درسَ التاريخ الإسلامي ووعى عبره ودروسه، واستقرأ أخبارَ معاركه، ومتى كان النصرُ ومتى كانت الهزيمةْ، والظروفَ والملابساتِ التي أحاطت بذلك.
وانظرْ إلى أي مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي يَأْتِكَ نبأُ هذه الحقيقةِ الكبيرة أوضحَ من الشمس وأبين. خُذْ مثالاً على ذلك ما جرى لدى هجوم نابليون بونابرت على مصر، أي في المرحلة التي اقتحم الأعداء فيها ديار الإسلام، وحكموا فيها معظم العالم الإسلامي الذي سقط في أسر الغزاة، ففي مصر كان الإسلامُ وقودَ الجهاد ضد بونابرت، فكان الهتاف العظيم: "وا إسلاماه!.." جذوةَ القتال، وكان الشعار الرباني الكريم: "الله أكبر!.." قبسَ الصراع في الليل المظلم، وشعلة الفداء والإيمان، وحافزَ الناس نحو الاستشهاد.
بهذا كان المصريون يكافحون ويستبسلون، بالإسلام العظيم، عقيدة الحق والبطولة، والإباء والشموخ، والرفعة والبذل، لذلك لم يكن عجيباً أن ينجحَ المسلمون في قهر نابليون وهو القائد الذي أذلَّ معظم أوربا، نعم قهروه وأذلوه، حتى تظاهرَ المسكينُ بأنه مسلم، وأنه حامي حمى الإسلام، محاولاً بذلك خديعةَ الناس وغِشَّهم، ومضى في مزاعمه فقال: إنه سيعمل على إعادةِ حكم الإسلام، وإقامةِ نظامٍ على مبادئ القرآن، بل إن مينو القائدَ الثالث في الحملة الفرنسية على مصر أعلنَ إسلامه على رؤوس الأشهاد.
أما القائد الثاني الذي جاء بعد نابليون وقبل مينو، وهو كليبر فقد قُتِل على يد شاب أزهري، جاء من حلب ليدرس الإسلام في الأزهر الشريف، وهو سليمان الحلبي الذي فاز بالشهادة بعد أن حكم عليه الفرنسيون بالإعدام لقتله كليبر.
كان المصريون إذن يقاتلون نابليون ومَنْ بعده بالإسلام الذي يبثُّ فيهم البطولة والقوة، وكان الصراع واضحاً جلياً في نفوسهم، وهو أنه جهاد في سبيل الله جل جلاله، وبهذا الجهاد الصادق المشرِّف أخفقت الحملة الفرنسية مصر، وهي الحملة الصليبية الأولى في العصر الحديث التي اقتحمت ديار العالم الإسلامي. أخفقت هذه الحملة ببقيةٍ من روح "وا إسلاماه!.." التي كانت تتدفق في صدور أبناء مصر، وجاهدَ المماليكُ إلى جانبِ المصريين ضد أولئك الذين جاؤوا يستترون وراءَ شعاراتِ الحرية والإخاء والمساواة، كما استتروا قبل ذلك وبعده وراء شعارات مضلِّلة كثيرة.
"وا إسلاماه!.." إذن هي الطريق، هي الطريق الوحيد لاستثارةِ مكنوناتِ الأمة المسلمة، واستجاشةِ قدراتها المبدعة الكبيرة في حركةٍ إيجابية بنّاءة، وهي الطريق لنغلب اليهود العادين الذين يجثمون في قلب ديار الإسلام، ويَأْسِرونَ المسجدَ الأقصى الطهور منذ سنوات شداد عجاف، هي الطريق لتدميرِ معنويات اليهود المتغطرسة، وتحويل الحرب معهم إلى حرب دينية مقدّسة شاملة، وهذا أشدُّ ما يخشاه اليهود.
إنهم يخشون انتفاضةَ الأمةِ المسلمة ودويَّ "وا إسلاماه!.." في جنباتها لأنهم يعلمون أن ذلك هو نهايتُهم التي لا ريب فيها، لأن الأمة المسلمة بهذه الانتفاضة، وذلك الدوي ستتحرك فيها إيجابياتٌ لا عدَّ لها. سيقف فيها تراثُ حضارةٍ شريفة هي حضارة الإسلام خلالَ أربعةَ عشرَ قرناً، وأكثر من مليار مسلم هم الرصيد البشري لأمة الإسلام، ضد عشرين مليوناً من عبيد المال، وتجّار الأعراض، ومدمّري الحضارات، وصانعي الفتن والحروب والمفاسد، وناكثي العهود، وأعداء الفضائل والأخلاق.
سيقف تراث الإسلام وحضارته البانية المباركة، ضدَّ تراثِ اليهود وحضارتهم الفاسدة المدمرة. وكما انتصرت حضارةُ الإسلام ضد التتار والصليبيين تحتَ راية "وا إسلاماه"، ستنتصرُ ضد اليهودِ تحت الرايةِ نفسها التي ما رفعتها الأمة المسلمة إلّا عادتْ عليها بأطيبِ الثمار.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق