الثلاثاء، 12 يوليو 2022

في ذكرى مولد الرسول ﷺ (1)

الفصل الأول: مولد الرسول ﷺ وعظيم خلقه.. تأملات في بعض المعاني

في ذكرى مولد الرسول ﷺ (1)

     ما أطل شهر ربيع الأول من كل عام؛ إلا وجاء يحمل معه ذكرى أثيرة غالية، يعتز بها كل مسلم ويهفو إليها، وهي ذكرى مولد الرسول الكريم ﷺ تلك التي كانت بدايةَ فجر سعيد طلع على الدنيا، وبزوغَ هداية أنقذت الناس من الضلال والفساد والحيرة، ومشرقَ حضارة كريمة عاطرة لم يعرف العالم مثيلاً لها قط، وإيذاناً بقيام دولة الحق والعدالة والمساواة، والمجتمع الراشد الأمثل.

     وإذا كان العظماء يقاسون بمقدار ما استطاعوا أن يحققوه في الواقع من العطاء المبارك النافع، فإن عظمة الرسول الكريم ﷺ بهذا المقياس الصحيح، هي العظمة الخالدة الكبرى، التي تتقطع أعناق جميع العظماء دونها، ويظلون في غاية العجب والدهشة والإكبار، وهم يمعنون فيها، ويستجلون كنوز عبرها ودلالاتها، ويتوقفون عند أبعادها الشاسعة، وأمدائها الواسعة، وغناها الذي لا ساحل له.

     وإنها لكثيرة جداً تلك النتائج المباركة التي حققها رسول الله ﷺ في دنيا الناس فأفادهم ونفعهم، وبيّن لهم السبيل القويم، وجنّبهم السوء والأذى، والشرور والمهالك، وقادهم إلى طريق سعادتهم في دينهم ودنياهم.

     إنها كثيرة جداً تفوق قدرة المرء الذي يحاول إحصاءها، فهي أكبر من طاقته وإمكاناته، وإذن؛ فإن له العذر إذا حاول التوقف عند بعض المعالم الكبرى من هاتيك النتائج، وعفواً إن فعلتُ ذلك، فالموضوع ضخمٌ عظيم، وحسبنا أن نجوب في بعض عطائه المبارك.

     أول نتيجة كبرى من نتائج دعوته ﷺ هي ذلك الجيل الرباني الفريد الذي رباه رسول الله ﷺ. لقد كان هذا الجيل أعظم جيل عرفته البشرية على الإطلاق، صحيح أن الأمة الإسلامية، ظلت طيلة عمرها، تُخرج من أبنائها مَنْ فيه مشابه كثيرة من صفات ذلك الجيل، في شتى ديار الإسلام، وعلى اختلاف الظروف والأحوال، ولكنْ صحيح كذلك أن ذلك الجيل الرباني الفريد لم يتكرر وجوده جماعة، وإن تكرر وجوده أفراداً. وهذا دليل قاطع على عظمته ﷺ وكريم نتاجه المبارك الميمون، يظهر أول ما يظهر في ذلك الجيل العجيب الممتاز، الذي غلب في نفسه أهواءها بادئ ذي بدء، ثم انطلق من بعد ذلك ليغلب العالم وليفتحه على بركة الله، وفي سبيل الله.

     والدارس لحال ذلك الجيل الأول، وعظمة آثاره في الأرض، وغناها وكثرتها وعمقها كذلك، وما فيها من تفوق نفسي باهر، وارتفاع إلى أقصى وأسمى درجات الكمال الإنساني، يجد نفسه أمام فيض زاخر من المواقف والأخبار والمعلومات تتصل به، هي ذروة التفوق البشري على الإطلاق، ولربّما ظن المرء بها المبالغة، لولا التوثيق الدقيق لتلك الأخبار، وهو توثيق علمي ممحّص يتحدى أدق معايير النقد التاريخي، ولولا قناعته أن الإيمان صانع الأعاجيب.

     كذلك كان المجتمع المسلم الذي أرسى دعائمه رسول الله ﷺ ثمرةً من أعظم ثماره المباركة الكريمة. لقد كان ذلك المجتمع، أعظم مجتمع عرفته الدنيا، وكانت معاني الكمالات الإنسانية أصلاً عميقاً فيه يكاد يكون الصفة الأساسية لجميع أفراده.

     ولقد حقق هذا المجتمع –من جملة ما حقق– مبدأ المساواة تحقيقاً عملياً ليس له نظير، وأشعر الناس بكرامتهم وعزتهم وحقوقهم، حتى كانت المرأة تتصدى لعمر بن الخطاب وهو على المنبر، وهو أمير المؤمنين فترد عليه، فيقول: أخطأ عمر، وأصابت امرأة!.

     وحقق كذلك –من جملة ما حقق– مبدأ العدالة، وأرسى دعائمه، حتى لم يعد ضعيفٌ يخاف أن يُسْلَبَ مالُه وحقُّه، ولم يعد قوي يطمع في العدوان على الآخرين، وخضع الجميع لشرع الله تعالى وهدي نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام.

     ولقد كان هذا المجتمع المسلم، بداية حضارة مشرقة نادرة، أخذت تمتد مواكبها وتتسع، وتتدفق عطاياها وتنتشر، حتى شرّقت وغرّبت، وأسدت للإنسانية جميلاً رائعاً لا يُنسى، وكانت معاقلها الكبرى في دمشق وبغداد، والقاهرة وقرطبة، منائر هدي ونور وعرفان في شتى المعارف من علوم وفنون.

     وإن حضارة القرن العشرين، تدين في كثير من جذورها الكبرى السليمة إلى الحضارة الإسلامية، حيث تتلمذت أوربا على يد المسلمين في الأندلس وصقلية والحروب الصليبية بشكل خاص، وأن المنهج العلمي التجريبي الذي يقف اليوم وراء منجزات العصر؛ إنما هو من عطاء الحضارة الإسلامية كما يشهد بذلك عدد من منصفي الغرب.

     وبعد؛ فما أعظم ما قدمه رسول الله ﷺ للناس!.. وما أكرمه وأنفعه!.. إنه العطاء الذي ليس له مثيل قط، وإنها العظمة التي تبدو كل عظمة أخرى إزاءها ضئيلة صغيرة محدودة.

*****

الخميس، 7 يوليو 2022

كتاب مواقف ومرافئ من الماضي والحاضر - المقدمة والمحتويات

كتاب مواقف ومرافئ من الماضي والحاضر - المقدمة والمحتويات

مقدمة:

     تاريخنا كنز ثمين، وأرض خصبة، وماض عريق.. كلما بحث الدارس في كنزه وجد جواهر ولآلئ مخبأة لم يكن رآها من قبل، وكلما حرث في أرضه وزرع استنبت من الخيرات والنعم ما لا عهد له به من قبل، وكلما أبحر في أعماقه اكتشف من المعاني والآفاق ما لم يرتده الرحالة والمكتشفون من قبل.

     كل هذا صحيح بشرط أن يكون الباحث والحارث والرحال صاحب قلب حاضر، وذهن وقاد واع، وتأمل وتفكر.. وإلا فإنه سيمر على الأحداث والمواقف غافلاً عن دلالاتها، وذاهلاً عن إرشاداتها.

     صحيح أن كل شخص يأخذ قدراً من المعنى والدلالة يرضى بها، ولكن صحيح أيضاً أن بعض الكتاب من أصحاب الأقلام النَقّادة الوَقّادة يصلون إلى ما لا يصل إليه غيرهم، وهذا كما قال يوماً حافظ إبراهيم عن اللغة العربية:

أنـــا البحر في أحشائه الدُّرُّ كامن     فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

     فالذين يركبون البحر كثير، ولكنَّ الغواصين فيهم قليل، وأقل منهم الذين يصلون إلى درره ولآلئه. وهذا هو حال هذه المقالات مع كاتبها الدكتور حيدر الغدير حفظه الله ووفقه.

     استمتعت بها، واستفدت من قدحات الذهن والنظر، ولمحات الفكر والبصر فيها. وأسأل الله سبحانه أن ينفع بها كاتبها وقارئها.

     والحمد لله رب العالمين.

شمس الدين درمش

------------------------

المحتويــــات
(روابط تنقلك إلى المواد)
***

قال.. وقلتُ..

قال.. وقلتُ..

     قال: لقد انهزمتم معشرَ المسلمين، ومع ذلك لا تزالون تفاخرون وتشمخون!.

     قلت: ولِمَ العجب؟ وأيُّ أمةٍ لم تنهزم؟

     قال: لكن هزيمتكم كانت كبيرةً مُرّة.

     قلت: صدقتَ!. وهذا سرُّ فخارِنا وشموخنا واعتدادنا وإبائنا.

     عندها استغرب وتعجّب، وفَغَرَ فاه من الدهشة والذهول...

     ثم قال: ألا ترى أن ذلك مَحْضُ غطرسةٍ وكبرياء، وإلّا فكيف تعلِّلُ ما تقول؟

     قلت: لا غطرسةَ ولا كبرياء، الأمر أبسطُ من ذلك، لو أن أمةً تعرّضت لِما تعرّضنا له من هزائم لبادت وامَّحت، وصارت خبراً من الأخبار، وبقاؤنا بالرغم مما تعيّرنا به من نكبات أعظمُ دليلٍ على أننا أقوى منها وأبقى.

     سكت يتأملُ فيما قلتُ له، فسارعتُ أروي له أخبارَ هزائمَ لا يعرفُها حلّت بأمتنا عَبْرَ تاريخها الطويل، في الشرق والغرب، وكيف خرجتْ منها تضجُّ بالحياة والعافية، والطموح والعنفوان، بعد أن ظنَّ بعضُهم أنها مضت أدراجَ الرياح.

     وبعد صمت رفعَ إليَّ وجهاً مرهقاً، تعلوه بسمةٌ صفراوية ماكرة،

     وقال: كنْ شجاعاً، وقل لي: أيهما اليوم شجرتُه أعلى وأطول أنتم أم أعداؤكم!؟

     قلت له: ربما كانت شجرة العدو كما تقول، لكنَّ شجرتَنا أرسخُ وأثبت، وأعمقُ جذوراً في الأرض، فهي أقوى إذن على مواجهةِ الرياحِ الهوج والأعاصيرِ المدمرة.

     قال: ولكنْ ألا ترى أن شجرتكم قد جفّت أوراقها واصفرّت؟

     قلت: قد يكون حقاً ما تقول، لكنني أقسمُ لك: إنَّ سِقايةً واحدةً لها كفيلةٌ أنْ تجعل الأغصان تعلو، والأوراقَ تخضر، والحياةَ تملؤها بالخيرِ والنماء.

     قال: عجباً لك أيُّ سقايةٍ هذه التي تتحدث عنها؟

     قلت: إنها شَرْبَةٌ من ماءِ الإيمان، وهو ماءٌ إذا استسقت منه أشجارنا فعل بها الأعاجيب، عطاءً وبذخاً، وجوداً وحصيلة، ونِتاجاً لا يخطرُ لك على بال.

     قال: أعداؤكم أكثرُ منكم في العددِ والعدّة.

     قلت: لا خَيْرَ في ذلك، لقد اعتدنا أن نتلقّى نصرَ الله على الرغمِ من قلةِ عددِنا وعُدَدِنا إذا كنا معه صادقين، وإن كتابَنا الكريم يقول: ﴿كم من فئةٍ قليلة غلبت فئةً كثيرة بإذن الله﴾ [البقرة: 249].

     قال: أما ترى أنك تُماري وتُكابر، وتجادل وتعاند؟

     قلت له: أنت تؤكد اليوم أننا مهزومون، أليس كذلك؟

     قال: بلى.

     قلت: فاعلمْ أننا نكسبُ أنصاراً جدداً في كلِّ يوم، ورجالاً عاملين يدخلون معنا في معركتنا المصيرية. إنهم أولئك الذين يدخلون في ديننا في كلِّ يوم في شرق الأرض وغربها. أليس نصراً لنا أن يعتنقَ دينَنا أناسٌ مختلفون ونحن كما تعلم مهزومون؟ لم يجد الرجلُ جواباً.

     فسارعتُ أقول له: لا تعجبْ فليست هي المرةَ الأولى، فإن المراتِ التي كنا ننتصرُ فيها ونحن مغلوبون كثيرة، وهذا هو موطنُ العجب.

     أن تنتصرَ وأنت قويٌ ظافر، ليس ذلك عجباً قط، العجبُ هو العكسُ تماماً، وذلك ما نحن نملكه. سأعدّد لك فاحفظْ. التتارُ الذين دمّروا حضارتَنا أسلموا وهم غالبون ونحن مغلوبون. إنه لنصرٌ لنا أليس كذلك؟ هذه واحدة.

     في الفترة التي كان المسلمون في الأندلس قد سقطت دولتهم نهائياً، دخل بعضهم في الإسلام واحتمل كلَّ ما احتمل المسلمون من عناءِ التعذيبِ والطردِ والتغريبِ والمصادرة، وهذه ثانية.

     وفي الفترة التي وقعَ فيها الغزوُ الصليبي لديارنا، كان عددٌ من الغزاة الصليبيين يُسلِمون وقد جاؤوا ديارنا للقضاءِ علينا، وهذه ثالثة.

     وفي الفترة التي سقطَ العالمُ الإسلامي فيها صريعَ التخلف، فاجتاحته جيوشُ الكافرين، كان هناك مَنْ يدخلُ في دينِ الله في آسيا وأفريقيا، بل وفي البلدان التي جاء منها الغزو، وهذه رابعة.

     ودخول أناس في دين الله في أيامنا هذه، هنا وهناك، في الشرق والغرب، نصرٌ كريمٌ هو الآخر، وهذه خامسة.

     إذن فنحن قادرون على الامتدادِ والزحف حتى في عجزِنا وفرقتِنا، وهزيمتنا وتخلفنا، وتراجعنا وانحسارنا، وذلك دونَ ريب دليلٌ على قدرةٍ ذاتيةٍ عجيبة، وأصالةٍ كبيرةٍ رائعة، وذاتيةٍ قويةٍ غلّابة.

     إذا كانت لنا مثلُ هذه القدرة ونحن مهزومون، فما بالُك بقدرتِنا ونحن ظافرون؟ سكتَ ولم يَحِرْ جواباً قط.

     فقلت له: لقد هدّك الرعب إذ فاجأتكَ هذه الحقيقة التي لم تكن تعرفها، لكن لا تخفْ، إننا في حالة النصرِ لسنا مِثْلَكُم قط.

     إننا حين ننتصر لا نبغي ولا نظلم، ولا نسفكُ دماً حراماً، ولا نقطع شجرة ولا نقتلُ بريئاً ولا طفلاً، ولا عجوزاً ولا امرأة. ولا نجبرُ أحداً على الدخولِ في ديننا. مَنْ أحبّ أن يعتنقَ الإسلامَ فرحنا به أعظم الفرح ورحّبنا به، ومن أبى أخذنا منه الجزيةَ فحسب، وهي مالٌ يسير يدفعه لنا لقاءَ حمايته، وبعد ذلك فهو آمِنٌ على دينِه وماله، وتجارتِه وأهله، لا نظلمه في شيء قط. لا تعجبْ من ذلك قط، فذلك هو ما يأمرُنا به ديننا، وهو ما كانت حضارتُنا تعملُه طيلةَ أيامِ سيادتِها.

     قلْ لي أيها الرجل بعدَ الذي سمعت: ألسنا نحن المسلمين خيراً منكم في حالي الهزيمةِ والنصر؟ كن شجاعاً وأجبني، ألسنا أجدرَ منكم بقيادةِ الحضارةِ الإنسانيةِ وتوجيهها؟

*****

التسامي على الجنس

التسامي على الجنس

     في مجلة الاعتصام القاهرية كتب الأستاذ الكبير الدكتور عيسى عبده يقول:

     حدّثني أحد علماء النفس الذين تعتز بهم مصر والعالم العربي، وهو الأستاذ الدكتور أحمد عزت راجح فقال:

     إن فرويد المعروف بتركيزه على دراسة الجنس، قد عَدَلَ في أواخر حياته عن كثير مما كان يظنه صواباً، ومن ذلك ما انتهى إليه من استحالة التسامي في دافع طبيعي واحد هو رابطة الجنس بالجنس، وما عدا هذا الدافع يجوز عليه التسامي.

     وبعبارة أخرى نقول: إن ما انتهى إليه فرويد، يتلخص في أن الضعف البشري يخضع للتهذيب والإعلاء والتسامي إلا الجنس؛ فإنه أقوى من كل أساليب الردع والضبط والكبح. وإلى هنا يتوقف فرويد.

     ونزيد من عندنا -والحديث للدكتور عيسى عبده- أنه من أجل ذلك شَرع لنا الحكيمُ العليم منهجاً قويماً يبدأ بالحياء والأدب، وينتهي في قمته بالحدود، فالقول إذن بأن اختلاط الجنسين يطفئ من الجذوة المتقدة هو قول سخيف بمعايير العلوم التي يؤمن بها دعاة التغيير من أجل التغيير.

     بعد هذا البيان المشكور من الدكتور عيسى عبده، نحب أن نؤكد أن فرويد نفسَه يذكر في بعض كتبه المتأخرة بأن ممارسة الجنس مع الشعور باستقذار الفعل، وولوغه في الإثم لا يُنجي من عقدة الكبت الذي أكثر فرويد من الحديث عنه وتوسّع فيه.

     ومعنى هذا أن الغارقين في الجنس الحرام سيظلّون غارقين في الكَبت حتى عند فرويد نفسه لأن الاستقذار والإحساس بالإثم أمران متلازمان للممارسة الجنسيّة المحرّمة، ومعنى ذلك أيضاً أن تصريف الطاقة الجنسية من خلال ضوابط الحلال النظيف هو السبيل للنجاة من الكبت، وهذا يقود في النهاية إلى التأكيد بأن الأحوالَ السويّةَ للإنسان في كل شيء وحتى الجنس إنما تكون في الحلال، بينما العقد والكبت والشذوذ حلفاءُ الحرام ونتاجُه المرُّ الكريه.

     من هذا يبدو لنا أن فرويد عدل عن بعض آرائه، وانتهى أحياناً إلى شيء من الصواب، لكن الذين يريدون إشاعة الفاحشة والفساد وإعطاءهما لبوساً علمياً زائفاً من فرويد أو غيره يتجاهلون هذه الحقيقة تماماً، ويكتفون بالتركيز على آراء فرويد الخاطئة المتطرفة مما يُثبت أنهم ليسوا طلابَ علم وحقيقة، بل أصحابُ ضلالٍ ودعاةُ انحراف.

*****

د.عيسى عبده .. مؤسس البنك الإسلامي

د.عيسى عبده .. مؤسس البنك الإسلامي

     بعد أن أشرف على تأسيس البنك الإسلامي في دبي، وبدأ البنك يمارس أعماله منذ افتتاحه، عاد الدكتور عيسى عبده أستاذ الاقتصاد الإسلامي إلى القاهرة في زيارة قصيرة له ليروي تجربته الغنية الرائدة.

     كانت البداية في أوائل عام 1395هـ= 1975م، وجميع المتحمسين لفكرة البنوك الإسلامية من أساتذة الاقتصاد يشعرون بإحباط شديد، فبنوك الادخار المحلية التي أنشئت في مصر ونجحت، وكانت تعمل بلا فوائد حوربت وصُفِّيت لغير سبب مفهوم، والمساعي التي بُذلت لإنشاء بنوك إسلامية في منطقة الخليج العربي وشمال أفريقيا قوبلت بغير حماسة أو بغير فهم.

     وحمل عام 1395هـ= 1975م في بدايته مفاجأة؛ إذ جاء إلى السعودية أحد رجال الأعمال في دبي وهو السيد سعيد أحمد لوتاه، وطلب من الدكتور عيسى عبده الذي كان يعمل أستاذاً للاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز أن يشرف على تأسيس بنك إسلامي في دبي.

     وبعد اتصالات عديدة وزيارة ميدانية لمنطقة الخليج، وبعد وقوف حاكم دبي الشيخ راشد آل مكتوم إلى جانب الفكرة صدر مرسوم بإنشاء البنك. وأحدث الخبر ردود فعل مختلفة في الدوائر الغربية.

     أذاعه راديو لندن بعد 4 ساعات من إذاعته في راديو دبي، السفراء الذين يمثلون الدول الكبرى اهتموا بالأمر، وقابل واحد منهم –ممن يعملون في إحدى دول الخليج– وزيراً عربياً مسؤولاً في المنطقة، وحاول أن يثير مخاوفه من العملية.

     والأغرب من هذا كله أن رئيس مجلس النقد الاتحادي في أبو ظبي، وهو إنكليزي رفض في البداية إعطاء رخصة للبنك بحجة أنه شركة مساهمة، ولا يقوم بالأعمال المصرفية، بل طلب أن تحذف كلمة بنك، وتوضع بدلاً منها كلمة شركة، لكن البنك الإسلامي استطاع أن يتجاوز هذه الصعاب.

     يقول الدكتور عيسى عبده: المهم أن الرخصة صدرت، وبدأ الاكتتاب عن طريق طرح أسهم للبيع، قيمة كل سهم (500) درهم، وخلال فترة قصيرة بيعت كل الأسهم، ووصلت قيمتها إلى (50) مليون درهم، أي ما يساوي (12.5) مليون دولار أمريكي ساهمت حكومة دبي بـ(20%) من رأس المال، وساهمت حكومة الكويت بـ(10%) منه، وغطى المبلغَ الباقي مساهمون من أبناء الخليج العربي.

     وبدأ بنك دبي الإسلامي أعماله، وكانت مهمته الأولى تخليص عمليات البنك بمراحلها المختلفة من الربا. ولكن كيف يحقق البنك أرباحاً إذن؟

     يجيب على ذلك الدكتور عيسى عبده، فيقرر أن الأرباح تأتي من مشاركة البنك لبعض التجار والمستوردين بنسبة النصف في أعمالهم التجارية، تضاف إلى ذلك أنواع أخرى من نشاطات البنك المربحة مثل الاتجار في العملة، والاستثمار في العقارات وما إلى ذلك.

     ولأن من مؤسسي بنك دبي عدداً كبيراً لهم خبرة بالمقاولات؛ فقد تفرّعت عن البنك إدارة للإنشاءات تتولى شراء الأراضي، وبناء العمارات، وبيع المساكن، وما يشبه ذلك.

     نقطة الضعف في التجربة هي في تعامله مع البنوك الأجنبية التي يستخدمها بنك دبي كوكلاء له في تمويل عملياته الخارجية، وقد تم الاتفاق على أن يودع بنك دبي جزءاً من أمواله لحساب عملياته، ولا يحصِّل فائدة ربوية عن هذه الإيداعات مقابل أن يؤدي البنك الأجنبي الخدمة لبنك دبي بلا مقابل.

     والمفترض في البنك الأجنبي أنه يستثمر أموال البنك الإسلامي في عمليات ربوية، وهذه مشكلة لا يمكن علاجها الآن؛ لأنه يستحيل أن تطالب البنك الأجنبي بأن يغير نظامه ليتفق مع الشريعة الإسلامية.

     والحل الحاسم هو في تكوين البنك الإسلامي الدولي الذي يفتح فروعاً له في البلاد الأجنبية، وهذه الفروع هي التي تمثل البنوك الإسلامية المحلية، في عملياتها الخارجية.

     وقال الدكتور عيسى عبده: إن نجاح تجربة دبي شجّع بعض رجال الأعمال في السعودية على التفكير في إنشاء بنك مماثل، بينما صدر في الكويت بالفعل مرسوم بإنشاء بنك إسلامي.

     وفّق الله هذه الأعمال المباركة التي هي في حقيقتها علامات وخطوات مضيئة على درب الأمة في مسعاها المشكور لاستئناف حياتها الإسلامية من جديد.

*****

شخصية الخديوي إسماعيل والتغريب

شخصية الخديوي إسماعيل والتغريب

     يستطيع الدارس أن يجد شخصية الخديوي إسماعيل، نموذجاً صارخاً ومبكراً للعمل في خدمة قضية "التغريب" وذلك على مستوى الحكّام. ومن خلال هذا النموذج يضع الإنسان يده على بعض الخسائر الكبيرة التي أحلّها المستغربون بأمتهم.

     رُبِّيَ الخديوي إسماعيل في فرنسا، واستُدعِيَ لحكم مصر من هناك قبل أن يتم تعليمه فيها، وقد عاد من باريس وقد ذابت كل حرارة للإسلام في صدره، وبَهَتَ أيُّ ولاءٍ يشدّهُ إلى دينه، ذلك أن صالونات باريس ومنتدياتها الثقافية والاجتماعية، وصِلاتُه برجالها ونسائها، قد صاغته صياغة جديدة غريبة تماماً عن الأمة التي ابتليت به، وكان مبهوراً بما رأى وسمع وقرأ في فرنسا، ولم تكن له جذور دينية قوية تحميه من الإعصار العنيف الذي تعرّض له، فلا غرابة إذن أن يعود من باريس إلى مصر، وقد صار الغرب قبلته الفكرية والثقافية، ونموذجه الأعلى للحياة، ولا غرابة أن تصبح الأمنية التي تملك عليه أقطار نفسه هي أن يجعل مصر قطعة من أوربا كما صرّح بذلك مراراً.

     وكأي مقلد متعجل مبهور فاقد لأصالته أخذ من أوربا الشكل والمظهر، وركّز على استيراد نقاط الضعف في الحضارة الغربية، وحرص على القشور الفارغة، فأسرف إسرافاً فاحشاً في المباني المترفة، وإقامة الحدائق، ونحت التماثيل، وبناء المسارح ودُور الغناء وما إلى ذلك.

     وقد أغرق هذا الحاكم الغِرُّ بلاده في الديون وفوائدها الباهظة بسبب تصرفاته الجاهلة. ويذكر التاريخ كيف أنفق المبالغ الطائلة على حفل افتتاح قناة السويس عام 1869م، حتى اضطر إلى بيع حصة مصر إلى ألدِّ أعدائها، وكيف أنفق على بناء دار الأوبرا في مصر على ما فيها من فقر وجهل وجوع ومرض المبالغ الكثيرة، واستقدم لها المغنِّين والمغنِّيات، واستأجر أشهر موسيقيّي أوربا ليضعوا لها الألحان.

     وتعد المدة التي قضاها الخديوي إسماعيل في حكم مصر، بين عامي 1863- 1879م؛ من أخطر المراحل المبكرة التي كانت البدايات الأولى في تدمير الشخصية الإسلامية وإذابتها، وإفقادها خصائصها، وحلّ عروبتها، وإقصاء الشريعة عن الحياة والحكم إقصاءً غير مسبوق في تاريخ المسلمين، وقد كان إسماعيل أول من تجرّأ على محاربة الشريعة بهذا القدر من الإبعاد لها، والتأصيل والتثبيت لشرائع الكفار.

     وفي إطار مساعيه هذه أنشأ أول مدرسة للحقوق على النمط الفرنسي لتكون تدعيماً عملياً لوجهته الاستبدالية، وتأكيداً لقبلته الفكرية الجديدة، وقد صارت هذه المدرسة فيما بعد، المحضن الأساسي المبكر لتخريج أجيال مفتونة بالثقافة الغربية، مبتوتة الصلة بشريعة الإسلام، لصيقة بشرائع الكفار، ثم طُوِّرت هذه المدرسة لتصبح كلية، ثم كليات واسعة النطاق، تسنّم كثير من خرّيجيها مراكز مهمة في طول البلاد وعرضها.

     وقد تلاقت رغبة هذا الخديوي برغبة أخرى أذكى وأدهى، وهي رغبة أعداء الإسلام الطامعين في إقصائه عن الحياة، وقد وجد هؤلاء الأعداء في شخص هذا الخديوي معقداً من معاقد آمالهم التي يريدون لها أن تتحقق، فكان التعاون والتنسيق، وكان التوجيه الخفي والظاهر، الصريح والمُبطّن.

     ويروي محمد طلعت حرب، الاقتصادي المصري الشهير واقعة لها دلالاتها في ذلك التلاقي المُشار إليه، وذلك في كتابه "تربية المرأة والحجاب" الذي نُشِر عام 1899م رداً على كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" في عهد عباس الثاني حفيد إسماعيل مما يجعل للرواية قيمة أوثق.

     وهذه الرواية هي أن إسماعيل لمّا أراد أن ينفصل بمصر عن الدولة العثمانية، وعدَ ملوكَ أوربا إن أيّدوه من أجل تحقيق هدفه أن يبدّل أحكام القرآن فيما يتصل بالحياة السياسية والاجتماعية، ويفصل السياسة عن الدين، ويطلق الحرية للنساء؛ بحيث يسِرْنَ في أثر المرأة الغربية، وينقل إلى مصر معالم المدنية الأوربية.

     جاء ذلك في كتاب الدكتور ماهر حسن فهمي عن قاسم أمين، في الصفحة (65) من طبعة سلسلة أعلام العرب للكتاب المذكور.

*****

عبد الوهاب عزام .. والممسوخون

عبد الوهاب عزام .. والممسوخون

     "الممسوخون" اسم يمكن لنا أن نجد مسماه عند كل من يتخلى عن تراثه وتميّزه، ويمضي وراء التقليد الغبي، والتبعية المرذولة، ليفقد كل استقلال وأصالة، وليكون في مرتبة التابع الذليل والقرد المقلد. ها هو ذا الدكتور عبد الوهاب عزام يقول تحت عنوان "المسخ":

قال لي صاحبي سمعت عجيـباً     من حديث عن الزمان القــــديمِ
أن نــاساً من الخنازيرِ صاروا     وقـــروداً تُرى بخُــــلْق دميـــم
ما رأينـــاه، ما رآه ثـقــــــــاتٌ     كيف ترضى العقول بالتسليم!؟
قــلت: فاسمع هُدِيتَ تأويل هذا     واســــألَنْ إن شككت كل حكيم
إن مســـخَ الطبـــاع تأويلُ هذا     لا تظنَّ المرادَ مسخَ الجســـوم
أيُّمــا أمـــة تحـــاكي ســــواها     لا تبـــالي صحيحها من سقيــم
فاحسَـــبَنْها من القرود قبــــيلاً     حاكيـــات الفعال دون حلـــوم
وإذا أمة سعـــت في الدنـــــايا     وارتضت في الفِعـال كلّ ذميم
فاحسَبَنْها من الخنـازير ترعى     في الخبيثات كل مرعى وخيم

     وبعد أن عرفتَ "الممسوخين" عند عبد الوهاب عزام، فهيا نتعرف إلى أضدادهم الكرام في نجوى شاعر مؤمن يصور فيها وقفة المؤمن بين يدي خالقه، حيث يعرف من هو حقاً، ويحتفظ بأصالته، وينأى عن كل ما يؤدي به إلى المسخ، هيا معاً إلى الشاعر يوسف العظم حيث يقول:

ربِّ قد أقبــــلت في ظل رحـــــابِكْ     خـــاشع الطرف لدى نور شهـــابِكْ
خـــاضع النفــــس ذليــــلاً صاغراً     وفــــؤادي ســــاجد يجثـــو ببـــابِكْ
كـــم بـــكى يـــا رب في سجــــدته     إذ يهـــاب الهول في يوم حســــابِكْ
يرقـــــب الغفـــران في يوم الظَّــما     وهو يرجو الورد من فيض شرابِكْ
كـلما وســــوس شيــــطان الهــوى     قــــلت يا شيــــطان سحقاً لسرابِـكْ
أو دعـــاني خــــاطر يعصـــف بي     قــــلت: يا شـــــاعر رفقاً بشبــابِكْ
كيـــف تشــــري ضلة بعد هـــــدى     وتمني الـنفــــس ظلماً بخـــرابِكْ!؟
أنت ما زلـــت فتى لا ترعـــــــوي     ضلت الحكمة في غضِّ إهابِــــــكْ
عــــد إلى الله، ورتــــــــل آيَـــــــهُ      فـلعــــــل الله يرضى بمتــــــــابِكْ
ربِّ لن يهــــــديَني في حيــــــرتي     غيـــــر نورٍ وسنـــاءٍ من كتــــابِكْ

*****

قوم بلا أسماء

قوم بلا أسماء

     نشرت مجلة "راديانس" الصادرة في دلهي بتاريخ 17 كانون الثاني 1971م، مقابلة تمت بين كاتب المقال وأحد الشبان الأوزبكيين؛ (أي مواطن من جمهورية أوزبكستان المسلمة؛ السوفييتية آنذاك)، وكان هذا الشاب عضواً في وفد رسمي سوفييتي يزور جمهورية الهند. يقول كاتب المقابلة:

     بدأ الأوزبكي الكلام بقوله: هل أستطيع أن أجلس معك؟

     أجبته: مرحباً بك. فسحب الأوزبكي كرسياً وجلس، وانزلق حديثنا بهذه البداية برقة، فسألني عن الحياة في الهند، وسألته عن أوزبكستان. واستفسرته: هل أنت مسلم؟

     قال: نعم، ولكن ليس عندنا الآن إلا النزر اليسير من الإسلام، فدولتنا علمانية بدون دين وليس مثل دولتكم.

     فسألته: ألا يوجد هناك مساجد الآن؟

     قال: نعم، ولكن أغلبها قد تحول إلى مدارس ومستشفيات، والكبار في السن فقط هم الذين يصلون الآن.

     ثم جلس هادئاً لفترة من الزمن، استأنف بعدها قائلاً: ولكن الهلال والنجمة (يقصد العلم التركي العثماني) سوف يرفرف يوماً على وسط آسيا...

     فقلت: هل هذا ممكن؟ وكيف تتوقون إلى الهلال والنجمة وأنتم تمثلون إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي المتمتعة بالحكم الذاتي، ولقد تقدمتم مادياً بوضوح!؟

     ونظر محدثي حوله فرأى كهلاً أوزبكياً يجلس إلى طاولة بعيدة ينظر إليه، فلبث محدثي لبضع دقائق صامتاً... ثم أجاب:

     هذا بالضبط ما أقوله يا رفيقي، وما يقوله من يتحدثون عن سبيل إلى التغيير. فأنا ضد هذا كله، وهناك من يعمل لذلك، ومركزهم الرئيسي راولبندي أو بغداد، وحلمهم هو جمهورية إسلامية لوسط آسيا، بهلال ونجمة يرفرفان على وسط آسيا في كل من الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، التي هي وطن الأتراك المسلمين، وبالرغم من أن هذا الحلم بعيد المنال إلا أنه يخبئ مشكلات للاتحاد السوفييتي والصين الشعبية على السواء.

وعندما قال هذا سألته: ما اسمك؟ قال بعد أن غمز لي وغادر: نحن قوم بلا أسماء!..

*****

المسلمون في سجون أمريكا

المسلمون في سجون أمريكا

     نشرت مجلة لايف الأمريكية، على صفحتين كاملتين تقريباً صورة لمجموعة من المسلمين السود في أمريكا، وهم يؤدون الصلاة في أحد السجون، وتحت عنوان: "إيمان صارم وراء القضبان"، كتبت عن هؤلاء تقول:

     "في الواحدة من بعد ظهر كل يوم جمعة، تنقل الكراسي من أماكنها، وتوضع بجوار الحائط في منتدى السجناء السود، وتبسط بقايا إحدى السجّادات الشرقية على الأرض، ثم تصطف حفنة من المسلمين السود المحكوم عليهم بالسجن، ويركعون باتجاه مكة المكرمة.

     وبعد ذلك يجلس المصلون لتناول الغداء الذي طبخوه بأنفسهم، والذي يطابق تعاليم القرآن الخاصة بالأطعمة. وهذه الحرية هي أمر شائع بالنسبة للمسلمين في السجون الأمريكية، وقد حققت نتيجة طيبة في سجن "والا والا" بولاية واشنطن.

     فهؤلاء المسلمون الأتقياء لا يتناولون المخدرات التي يمكن الحصول عليها بسهولة داخل السجن، والتي يستعملها حوالي نصف المساجين، وهم لا ينغمسون في شرب "البرونو"، وهو الشراب السائد في السجن، مصنوع من عصير الفواكه والسكر والخميرة. وشريعتهم تحرِّم الشذوذ الجنسي الذي هو من أسباب حوادث العنف والاضطرابات بين السجناء في أمريكا.

     أصبح السجناء المسلمون جماعة تحظى بالاحترام الكبير، وذات تأثير مضطرد على النزلاء السود الآخرين في سجن "والا والا" الذين يشكلون نسبة 23% من مجموع المسجونين.

*****

عبد الرحمن عزام.. ومشاكل العصر (2)

عبد الرحمن عزام.. ومشاكل العصر
(2)

     كان المرحوم الأستاذ عبد الرحمن عزام واحداً من الساسة العرب القلائل الذين تميزوا بالأصالة والاستقلالية، والحرص على مصالح الأمة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، سواءً أكان في عالم الفكر أم في عالم السياسة.

     ومواقفه معروفة مشهورة منذ فجر حياته، حين كان طالباً في كلية الطب، ونشبت الحرب في ليبيا بين الغزاة الإيطاليين وبين المجاهدين المسلمين من أبناء ليبيا، يساعدهم إخوتهم في العقيدة من شتى البلدان، لم يُؤْثِرِ الدراسة على واجبه، فترك كلية الطب غير آسف عليها وعبر الحدود الليبية المصرية ليقوم بواجبه في قتال المعتدين. وكان ذلك اليوم، بداية سلسلة من النشاط السياسي الواسع في خدمة الأمة على شتى المستويات وفي مختلف المراحل حتى وفاته عليه رحمة الله.

     وكان الرجل إلى جانب كونه سياسياً، يمتاز بعقلية جيدة، وقدرة فكرية طيبة، وكان في الفكر -تماماً كما كان في السياسة- يمثل خط الأمة الأصيل، وفكرها المستقل، ونزعة الحفاظ على تراثها وشخصيتها، يظهر ذلك في كتابه المعروف الذائع "الرسالة الخالدة" الذي يجد فيه المرء زاداً فكرياً أصيلاً جيداً.

· ترى كيف نستطيع أن نسمع رأي الرجل في مشاكل العصر، وثقافته، وروحه وآليّته، وقضاياه المعقدة المتزايدة!؟.

     "لقد صارت الأمم صنوفاً من الناس متقاطعة، وصار البشر مشتتين، في عالم متناكر تبلبلت فيه الأفكار، واختل العرف البشري، وتباعدت ألوان العيش المادي وتكاثرت صوره الذهنية، وتناكرت الطبقات والطوائف والأقوام. وكلما امتد دور الانتقال تعددت مظاهر الأفراد والجماعات، واستعصى الرجوع بها إلى أصول مقبولة، ومُسلّم بها من الجميع، أو مُسلّم بها على الأقل من كتل كبيرة كانت تجمعها صلات روحية قوية، في عقائد دينية مشتركة تشمل مئات الملايين من الخلق".

     لكن بعض الناس يصر على أنَّ تَدافُع الحياة المادية في طريق النمو والصعود سيؤدي باستمرار إلى مزيد تقارب وجهات النظر بين الشعوب، باعتبار أن وسائل الاتصال المادية والفكرية آخذة في النمو المطّرد، وباعتبار أن العالم صار يتخذ نماذج تكاد تكون مشتركة في قيم الذوق والجمال.

· فكيف تبدو هذه الفكرة؟

     "إن ما يُظَنُّ من أن الحياة المادية القائمة على السرعة وسيلة عاجلة لجمع البشر على نظرة موحدة للحياة المادية، وعلى أسس معنوية مقبولة من الجميع، أمر قد يكون في سبيل التحقيق، ولكنه لا يزال بعيداً جداً، وسيلقى العالم أهوال أدوار الانتقال والاستقرار، ولن يستطيع الناس أن يخلعوا التراث المعنوي والفكري كما يخلعون الثياب، ولذلك ها نحن أولاء نشهد تشعب الأفكار والآراء واضطراب الحياة.

     إن الذي اكتسبته البشرية من رقي مادي وفّر لها راحة بدنية كبرى، بحيث صار البون بين جيلها الحالي والأجيال السابقة شاسعاً جداً، فمن المستحيل أن نقنع البشرية بأن تتخلى عن هذا الكسب الكبير، فذلك يناقض طبائع الناس، ثم إن تلك المنجزات أمر يمكن أن يصير مفيداً جداً في كل الأصعدة إن أُحْسِنَ استعمالها".

· ترى كيف هو السبيل من أجل ذلك؟

     "لا بد لنا من التفكير العاجل، والعمل السريع للتوفيق بقدر المستطاع بين الحياة المعنوية الموروثة، وبين الحياة المادية المفاجئة، وتجنب أثر الصدمة التي تتولد منها هذه الانفجارات الهائلة بين الأمم، وبين الطبقات في الأمم.

     ولا بد لنا كي نتمتع بثمار المدنية الآلية، ونستكمل نعمتها من بعث الحياة الروحية بعثاً جديداً مناسباً للحياة المادية الجديدة، ففي هذه الحضارة نِعَمٌ لا حدّ لها، فقد تغلب الإنسان بالآلة والعلم على كثير من الصعاب والويلات، زاد إنتاجه، وسَهُلَ انتقاله، وقهر الأمراض الجائحة، واتقى القحط، وتعددت مصادر لهوه ومرحه، وتزيّنت له الأرض وأخذت زخرفها، ومشى في قرن واحد بالحضارة المادية ما لا يُقاس معه مَشْيُهُ في القرون الماضية، ولكنه في قرن واحد كذلك، قضى أو كاد يقضي، على تراثه المعنوي الذي كسبه في عشرات القرون.

· وماذا بعد، كيف صارت حياة الروح بالقياس إلى حياة المادة؟ وأين يقف فكر هذا العصر؟

     "نسي العصرُ اللهَ، فأنساه نفسَه، ففي جيل واحد هُزِمت حياة الروح هزيمة نكراء أمام حياة المادة، وأخذت الآلة الصماء -وقد سيطرت- تفتك على غير هدى، وبغير ضابط من دين أو خُلق أو عُرْف".

     وبعد..

     لقد ارتحلنا معاً نجوب فكر الأستاذ عبد الرحمن عزّام، ونحاول معرفة رأيه في مشكلة كبرى من مشاكل عالمنا الحديث.

     ومهما تشعبت بنا الآراء، وتعددت وجهات النظر، فأحسب أننا نلتقي حول قناعات ثلاث، تمنحها الشواهد المتكررة حكم الحقائق الراسخة:

     الأولى: هي أن عالمنا المعاصر، عالم قلق مضطرب، له خصائصه وسماته التي أبرزها الحيرة والتذمر، والجيشان الدائم، وفقدان الأمن النفسي.

     الثانية: أن تَقَدُّمَ علوم الآلة، وازدهار المنجزات المادية، يقابله انحسار روحي وأخلاقي باستمرار.

     الثالثة: أن الإسلام الذي استطاع أن يُحدِث الانسجام بين مكاسب المادة، وحياة الروح، استطاع أن يُحدِث ذلك في تصوره وفهمه للحياة، واستطاع أن يُحدِثَه كذلك في تجربته التاريخية تطبيقاً عملياً في حياة الناس.

*****

الأكثر مشاهدة