السبت، 9 سبتمبر 2023

أكتبُ إليك بعد الحج

أكتبُ إليك بعد الحج

     أكتبُ إليك -يا أخي المسلم- حيث أنت هذه الكلماتِ الودودة بعد إذ أكرمني الله عز وجل بأداء فريضة الحج، أكتب إليك، وفي القلب شوقٌ، وفي القلب حنين. وأكتب إليك، والمشاعر والانطباعات، والأفكار والخواطر، والعبر والدروس كثيرةٌ كثيرة، تتزاحم علي وتشرئبُّ، فيحار المرء بأيِّها يبدأ. ومهما يكن، وبأي شيء بدأ الحديث فلا بد قبل كل شيء من حمد الله عز وجل، حمداً كثيراً كثيراً أن يَسَّرَ لنا بجودِه وعونِه أداء الحج هذا العام، وإنَّها لَنِعمةٌ كبرى تستحقُّ أعظمَ الحمد والثناء.

     لقد كانت رحلةً ربانيةً روحانيةً قدسية، أسعدنا اللهُ تعالى فيها بأشرفِ الأعمال، وأقدس المواقف، وأطهرِ الأماكن والبقاع، وأروعِ الأدعية والأذكار، فطابت نفوسنا، وسعدت أرواحنا، وهبّت علينا نسائم الصفاء والهناءة، والسكينة والبِشر، والطمأنينة والرضوان.

     لقد كنا في هذه الرحلة العُلْوية، وكأننا في معراجٍ من نور، طافت فيه أرواحُنا كما طافت أجسادُنا بمشاهد الذكريات الإيمانية العظيمة، من عهدِ إبراهيم الخليل، وإسماعيل الذبيح الأمين عليهما الصلاة والسلام، إلى عهدِ رسالة الإسلام ينهض بها محمد ﷺ، ولَكَمْ لَذَّ لنا النظرُ إلى الكعبة الغرّاء تطوف بها أمواجٌ من البشر، من مشارق الأرض ومغاربها، وَحَّدَ بينها الإسلام العظيم، وجمعتها التلبيةُ الخالدة: "لبيك اللهم لبيك"!.. أمواجٌ ترى فيها الأسود والأبيض، والغني والفقير، والحاكم والمحكوم، والعربي وغير العربي، إخوةً متحابين في الله عز وجل، أسقطَ الإسلامُ الخالد كلَّ الفوارق الزائفة التي تفرِّقُ بينهم.

     وما أجملَها صورةً لا تكاد تُمحى!.. إنها صورةُ بعضِ الشباب الأوربيين ممن هداهم الله تعالى للإسلام، فجاؤونا إخوةً كراماً أعزاء، أعضاءَ أحبّةً في أسرة المسلم العالمية. لقد كانوا يُكبِّرون ويُلبّون، وهم بملابس الإحرام، تفيض وجوههم بالجلال والجمال، والحب والحنين، والخشوع والإنابة، وهم في سلامٍ روحي ونفسي عميق، افتقده ذووهم منذ زمنٍ بعيد، حيث طحنتهم المادية العاتية في بلادٍ لا مكانَ فيها لغير المادة.

     لقد شاهدتُ مَعْرِضَ الأجناسِ والألوان، واللغاتِ والأشكال، والأزياءِ والبلدان، يجمعها كلَّها هذا الحرمُ القدسي الكريم، في هذه البقعة الطاهرة المباركة، وهي تهتف من الأعماق: الله أكبر!.. وتردد من الأعماق: لبيك اللهم لبيك!.. وقلوبُها ضارعة إلى خالقها، ووجوهُها مشدودة إلى كعبتها، ترى في طوافِها حولَها طاعةً لخالقِها جل شأنه، وترى فيها مثابةً تهفو إليها القلوب المؤمنة، وعنواناً لمجدِ الأمة المسلمةِ وقوتها، واتحادها وتعاونها:

قدسيّةُ الكعبةِ في جَمْعِها أُمَّتَــــنا مِنْ كلِّ أقطـــــــارِها
وأنها محــــورُ أمجادِها وأنها مصـــــدرُ أنــــــوارِها
وكعبةُ المؤمن في قـلبِهِ يطوفُ أنّى كانَ في دارِها[1]

     ولو طفق المرء يتحدث عن عرفات لهاله الأمر، وسالت به أوديةُ الحديث فما يدري ما الذي يدع!؟ وما الذي يأخذ!؟ عرفات صعيدٌ عجيب من الجمال والجلال والإيمان، ترى العالمَ كلَّه فوق جبلِه، وترى فيه الحَشْرَ الأصغر قبلَ يومِ الحشر الأكبر، جبلٌ عظيمٌ ذرّاتُه البَشَر، وبَشَرٌ عظيم في صورة جبل، جموعٌ متلاحمةٌ مزدحمة من الرجال والنساء، والشيب والشبان يجأرون لربّهم بالدعوات بمختلف اللغات، وقد توحّدت منهم الغاية والهدف، وقد صدقت منهم النوايا والسرائر، وقد انصهر بعضُهم في بعض فكأنهم فردٌ واحد، وذاب الفردُ الواحد في نفسِه فتجلّى قلباً منيباً مفوِّضاً داعياً باكياً مستغفراً، وصارَ دعوةً صادقةً حرّى تشقُّ أجوازَ الفضاء وهي تردد: الله أكبر!.. وتخلعُ عنها الأرضَ وجواذبَ الأرضِ وهي تهتف: لبيك اللهم لبيك!..

     ولعلك في عرفات استشعرتَ كما استشعرَ الواقفون هناك، عظمةَ هذا الموقفِ الرهيب فسكبتَ الدموع كما سكبوها، وعزمتَ على التوبةِ النصوح كما عزموا، وعاهدتَ ربَّكَ أنْ تقطعَ ما بقيَ من رحلةِ العمر كما عاهده الآخرون، مستقيماً على نهجِه، ملتزماً بأمره، حريصاً على مرضاته، بعيداً عن معاصيه، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، مجاهداً في سبيل الله تعالى بصدقٍ وإصرار، من أجل استئنافِ حياةٍ إسلامية، خالصةٍ صادقة، تقيمُ المجتمعَ المسلم، وتُنْشِئُ دولةَ الإسلام، وتحكمُ بالقرآنِ وحده، وتحاربُ ليلَ الجاهليةِ والباطلِ والمذاهبِ الأرضيةِ المستوردة.

     ولعلك قد استقرَّ في قلبِكَ العزمُ الجيّاش، والأملُ الوقّاد، واليقينُ العميقُ القوي، أنَّ المستقبلَ للإسلام، فهو طريقُ المسلمين، الوحيدُ للخلاصِ والسعادةِ في دينهم ودنياهم، بل هو طريقُ الإنسانيةِ كلِّها، وطريقُ الحضارةِ للنجاةِ من الصعابِ التي تعاني، والمشاقِّ التي تكابد، والتحديات التي تواجهه، فإنَّ عصراً من العصور لم يشهد من القلقِ والمتاعب والحيرةِ والضياع والصراعِ والمآسي ما شهدَه عصرُنا، مما يجعل حاجتَه للإسلام أكبر، ومما يجعلُ مسؤوليةَ المسلمين أعظمَ في أن ينقذوا بالإسلام أنفسَهم، وينقذوا به البشريةَ جمعاء، والحضارةَ التي باتتْ في الاحتضار.

*****
--------------------------
[1] شعر عمر بهاء الدين الأميري.

أصوات الملبّين

أصوات الملبّين

     ترى أي أثر عميق تركه في الإنسان أصوات الملبّين أيام الحج؟ أي إحساس جميل شفاف، بالوجد والشوق، والرهبة والخشوع، والخوف والرجاء، والحزن والإشفاق، والأمل العارم المتدفق، يمكن للمرء أن يستشعره، وأن يجوب أفياءه وأمداءه، وهو واحد من بين تلك الجموع المزدحمة، جاءت تطلب المغفرة والرضوان وهي تردد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك؟

     لعل هذه التلبية هي أعظم أنشودة حية دفاقة تأسر قلوب المؤمنين، ولعلها أجمل أغرودة عذبة حبيبة تمتلك عليهم جميع نفوسهم وكل مشاعرهم:

لبيك نجوى البـــــائسينَ جوانحاً تتحرَّقُ
لبيك رَجْوى المذنبين ببابِ عفوك حلّقوا
لبيك أفئــدةٌ ترفُّ وفي رحابك تخفـــــقُ
لبيك أشـــــواقَ الظِّـماءِ مواكباً تتـــدفقُ
لبيك إيمـــاناً شـــذاهُ مثــــانياً تتـــــــألقُ
لبيك أنفاسُ الحجيج بسرِّ نَفْحِكَ تعبــــقُ
لبيك توحيداً لذاتِكَ بالهدى يتـرقــــــرقُ
لبيك عهدَ عقيدةٍ هي للنضـــــالِ الموثقُ

     وهي تلبية حارة حارة، ممزوجة بأرواح أصحابها الذين تحملوا الصعاب، وقطعوا المفاوز، وغادروا الديار، وتركوا الأهل والولد والمال، يحدوهم رجاءٌ سخيّ، وأملٌ واثق، ويقينٌ مكين أنهم سوف يعودون من رحلتهم وقد ظفروا بالفوز والمثوبة، والعفو والرضوان:

لبيك يا مَنْ لا شريــــكَ له يُـرامُ ويُقْصَـــدُ
لبيك أَشْرِقْ بالرضاءِ عسى يطيبُ الموردُ
لبيك هذا يومُ نَفْحِــــكَ أَنْعُـــــماً تتجــــــددُ
لبيك ضاقَتْ بالعبادِ السُبْـــلُ حينَ تبـــددوا
لبيك مزَّقَهمْ هـــوانٌ عاصفٌ متمــــــــرِّدُ
وَفَدوا بِذُلِّ الحائرين جراحُهُمْ لا تُضْــــمَدُ
هَبْهُمْ لعفوِكَ ليس غيرُك واهباً يُسْـــــتَرْفَدُ

     إنهم عطاش ولكنْ لسقيا الرحمة، إنهم ظماء ولكنْ لغيث المغفرة، لقد قدموا من كل مكان ليكونوا ضيوفاً على الرحمن في هذه الأيام المباركات:

يا ربِّ شُعْثاً أتهموا، يا ربِّ غُبْراً أنجــــدوا
وبطاحُ مكةَ في الصباحِ وفي المساءِ تغـرِّدُ
زانَ المشـــارفَ في حماكَ تبتّلٌ وتعــــــبُّدُ
وتماوجت عرفاتُ شعشعها الجلالُ المُفْرَدُ
وسمَتْ إليك بها المشــــاعرُ عَزْفُهن توجُّدُ
هنّ الضراعةُ والضــــــراعةُ أعينٌ تتسهّدُ
هنّ الحنينُ لظىً يجيـــشُ وباللظى يتصعّدُ

     وأيّاً كانت الذكريات، فذكريات الإنسان عن الحج أجملها وأروعها وأبقاها، كيف لا والتلبية تتكرر كل عام فتتغلغل ريّاها العذبة، وأقباسها الطاهرة، وأغاريدها الحبيبة، وأنسامها العاطرة، في عقله وقلبه وأعصابه، فإذا به أكثر صدقاً وخشوعاً، وإذا بإيمانه يزداد ويرسخ.

     فإنْ كان بين الحجيج فما أسعده!. وما أكرم ما فاز به!.. وإن كان بعيداً عنهم حمله الشوق على جناح الذكرى والخيال، فإذا بروحه هناك في تلك المواطن الغاليات، تلبي وتلبي، وتطلب الهداية والمغفرة، ونصراً عزيزاً تعلو به راية الإسلام ويندحر البغاة والطغاة:

لبيك أعظمُ مشهدٍ في الكونِ هذا المشهدُ
الذكرياتُ الغالياتُ ومجــــدُها المتفــرِّدُ
أَعْلى منائرَ هَدْيِها فجــــرُ النبوّة أحمــدُ
يا ربّ عَوْداً للهدايـــــــةِ زادُها لا يَنْفَـدُ
يا ربّ روحاً عالياً في الحقِّ لا يتــرددُ
يا ربّ نصراً أنتَ فيه على البغاةِ مؤيِّدُ
*****

لبيك اللهم لبيك (5)

لبيك اللهم لبيك (5)

     "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

     ذلكم هو الهتاف العلوي الجليل الذي يملأ أجواء أم القرى في كل عام، وتتجاوب به أرجاء مكة المكرمة كلما اقترب الحج، وأخذت قوافل المؤمنين القادمين من كل صوب تصل إلى الأرض الآمنة المقدسة.

     وهو هتاف يفيض نغمة حلوة علوية، وأشواقاً متدفقة نبيلة، تتجلّى فيه روح الحب والإيمان والحنان، يعلن به المحب هيامه، ويصرّح فيها عمّا يكنّه من شوق متّقد، وعاطفة حيّة.. ويجهر بذلك كله منذ أن يلبس ملابس الإحرام، لكنه حين يصل البيت الحرام، يفيض ما فيه ويتدفق، ويزداد فيضاناً وتدفقاً، فلا يرويه إلا أن يشعر بأنه موصول الأسباب بالسماء، وثيق العروة بالإيمان، مترفع على الصغائر والسفاسف، متجرد من المطامع والأهواء، يدوّي لسانه وقلبه: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

     إنه يبث لهذه الكلمات العلوية شوقاً أكنّه من زمان، وحباً انطوى عليه منذ دهر، وحنيناً سكن أعماقه من قديم، وها هو يرى نفسه قد تحقق أمل من أكرم آمالها، وغاية من أنبل غاياتها، فلا غرابة أن تراه يدعو دعاء الهائمين، ويثني على ربه ثناء المؤمنين الموحدين، ولا يتمالك نفسه من شدة الفرح الذي غمر قلبه مما أكرمه الله به، فقد تنهل دموعه، ويستبد به البكاء، وقد يسبح في لذة روحية سامية، وقد تهدأ منه الجوارح قلباً وروحاً وجسداً، فتراه صامتاً متفكراً خاشعاً، أو تراه وقد علت وجهه ابتسامة هادئة هانئة شاكرة.

     لقد قرّت عينه بزيارة البلد الذي طالما تمنّاه، فحلّ بمكة المكرمة مهد الإسلام الأول ومهبط الآيات الأولى من الوحي، وحلّ بالمدينة المنورة، التي شرفت باستضافة سيد الخلق محمد ﷺ حياً وميتاً، وكرمت بأنها كانت أول دولة تقام على وجه الأرض بدوافع الفكر والعقيدة والاختيار الراشد، حيث كانت مبادئ الإسلام تجد الطريق العملي للتطبيق الواقعي في دنيا الناس، لتصوغ للبشرية أكرم مجتمع، وتبني لها أشرف حضارة، وتطلع للناس فجراً سعيداً هو أكرم عهودها، وأشرف أيامها، وأجمل ما حفلت به في تاريخها الطويل على الإطلاق.

*****

لبيك اللهم لبيك (4)

لبيك اللهم لبيك (4)

     "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"،

     هذا النداء الرباني البهيج، هو هتاف التلبية المدوية، ترفعها حناجر هذه الأعداد الهائلة من البشر، في رحلة الحج النورانية، منذ كان حجٌّ، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. هذه التلبية الربانية ترددها في أيامنا هذه الأفواه الطاهرات المباركات، لوفود الحجيج القادمة إلى بيت الله الحرام من كل مكان، من أدغال أفريقيا وصحاريها، وأعماق آسيا وفيافيها، وجبال أوربا وثلوجها، من الصحاري والجبال، والسهول والشواطئ، والأمكنة القريبة والنائية، ومن جميع شعوب الدنيا على اختلاف بلدانها وألوانها وأجناسها ولغاتها، من كل مكان، خرج المسلمون في رحلة مباركة كريمة ينشدون بيت الله الحرام، مؤملين الفوز والمغفرة والقبول.

     {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]. رحلة مرت عليها قرونٌ وقرون، وكرّت عليها الأحقاب والأجيال والدهور، تبدّلت دول وحكومات، وخلافات وسلاطين، وانقرضت حضارات وقامت حضارات، وماتت إمبراطوريات وولدت أخرى، والرحلة المباركة هيَ هي، حيةٌ في ضمائر المسلمين، جيّاشةٌ في أخلادهم، أثيرةٌ عليهم غالية، هم بها حفيّون وعليها حريصون، لا تزال تدفعهم للمضيّ فيها على الرغم من الحر والبرد، والجوع والعطش، والبعد والغربة، والمشقة والمتاعب، والنفقة والبذل، وآلام السفر ومتاعب الطريق، بل مخاطره أحياناً التي قد تودي بالمرء إلى الهلاك كما كان الناس يعهدون إلى ما قبل نصف قرن من الزمان أو أقل، لكنَّ ذلك كله لم يصرف المسلمين عن أحب وأهم رحلة لديهم، وكيف ينصرفون عنها، والشوق مُلِح، والسعادة كبيرة، والقلب مشوق، والمتعة عالية سماوية، والأمل بمغفرة الله عز وجل وعفوه ورضوانه وجنته كبيرٌ كبير، وإنها لأهدافٌ ومعانٍ يهون من أجلها كل شيء!؟.

     إن الرحلة إلى بيت الله عز وجل هي رحلة التاريخ كله، وهي رحلة الدنيا كلها، رحلة بطول الزمان، وعرض المكان، وتنوع البلدان، واختلاف البشر. رحلة تظل تهفو إليها قلوب المسلمين فيسارعون للمشاركة فيها، ما كان كونٌ وما كانت حياة. رحلة ستظل قائمة ما قامت الأرض لجميع أبناء الأرض؛ ممن ارتضى.. اللهَ تعالى ربّاً، والقرآن الكريم دستوراً وإماماً، وهادياً وحكماً، ومنهجَ حياة، ومحمداً ﷺ نبياً ورسولاً، والإسلامَ ديناً، واقتنع بذلك، ووعى لوازم قناعته هذه، واستقام عليها وتبنّاها.

     إنها رحلة الاغتسال والطهر، والحب والصفاء، والمودة والوفاء، والإيمان والهداية، والتوبة النصوح، والأوبة إلى درب الاستقامة، والنأي عن مزالق الشيطان. رحلة يغتسل الإنسان فيها من ذنوبه وآثامه وخطاياه، ويفتح صفحة جديدة في حياته أن يكون بالإسلام وللإسلام، على ذلك يحيا، وعليه يموت، ومن أجل إعلاء رايته يعمل ويجاهد.

     رحلة يخرج فيها الإنسان إذ يُحرم متجرداً من ثيابه إلا ما يستره، ويندمج في الناس جميعاً في موكب رباني عظيم هو من شعائر هذا الدين وخصوصياته، حيث لا شبيه له قط في أمة من الأمم، أو ديانة من الديانات.

     وفي هذا الموكب تُلْغى جميع الطبقات والدرجات، والشارات والانقسامات، والألوان والبلدات، والأعراق واللغات، وتظهر الأمة المسلمة في الصورة الحقيقية التي يريد دينُها العظيم منها أن تكون عليها، ويشعر المسلمون في هذا الموكب الرائع العجيب أن الملائكة تحفّهم وتنظر إليهم، وأن رحمة الله تعالى منهم قريبةٌ قريبة، وأن عينه تحرسهم وترعاهم وتكلؤهم، وتجبر عجزهم، وتستر نقصهم، وتعين محتاجهم، وتسدد خطاهم، وتتجاوز عن سيئاتهم، وتعفو عن آثامهم وأخطائهم، وتُنْزِل عليهم شآبيب الرحمة والمغفرة والاستجابة والقبول، فتؤمّنهم مما يخافون، وتمنحهم ما يرجون.

     وتنتقل أرواح الناس في هذا الموكب، لتتذكر مع شعيرة الحج الخالدة العظيمة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وتتذكر رسول الهدى محمداً ﷺ وصحبه الكرام أبا بكر وعمر، وعثمان وعلياً، وخالداً والجراح، وآخرين كثيرين، فتمتلئ عزماً وتصميماً أن تواصل المسيرة على دربهم المبارك وهديهم الكريم.

     وتتذكر فيما تتذكر، هاجر زوجة نبي الله تعالى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهي تعدو بين الصفا والمروة في لهفة حرّى حزينة، باحثة عن قطرة ماء، تبل بها صدى رضيعها الذي أشفى على الهلاك، ويكون في تذكار الناس لها، ما يوقد فيهم لهفةً جديدةً حزينة، يخافون معها ذنوبهم وخطاياهم أن تقودهم إلى الهلاك، وأملاً صادقاً عارماً أن يتداركهم الله برحمته ومغفرته كما تداركت أم إسماعيل من قبل.

     ويمضي الركب هنا وهناك، ويمضي كذلك ليزور المدينة المنورة والمسجد النبوي الشريف، ويلتقي في رحابه بسيد الخلق، سيد البشر، أستاذ العالمين، ومعلم الناس، قائدنا وإمامنا وهادينا، حبيبنا وسيدنا ونبينا، محمد ﷺ، فتكمل الفرحة، وتطيب السرائر، وتشرق الوجوه، وتصفو القلوب، وتسمو الأرواح، ويتقد العزم في المسلم أن يعود من رحلته وقد عاهد ربه عز وجل أن يسير على نهج هذا النبي الكريم ﷺ وطريقه في قابل الأيام، وأن يجاهد لإعلاء الإسلام الذي بُعث به رحمةً للعالمين حتى يرى دولته قائمة، ومجتمعه ماثلاً، ورايته ظافرة.
*****

لبيك اللهم لبيك (3)

لبيك اللهم لبيك (3)

     "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"،

     ما أجملها من نداء علوي جميل، وهتاف رباني خالص؛ تتدفق على الألسنة، وتهتف بها الحناجر، وتدوّي بها الألوف!..

     إنها إشارة إلى عهد يقطعه الحاج على نفسه، أن يلتزم أمر الله تعالى فيما يفعل، ويحكم بشرعه، ويطبق منهجه، ويجتنب جميع صفوف الضلال.

     "لبيك اللهم لبيك"، هتاف رباني جليل، تتجاوب به الدنيا، وتهفو إليه الكائنات. إنه شعار كريم جاءت النصوص بالإكثار منه، والحث عليه، والدعوة إليه، ذلك أن هذه التلبية العظيمة التي تنطق بالاستجابة الخالصة المحضة، والإنابة الممحَّصة النقية، ترفع ألفاظها الحبيبة حناجر الملبين المخلصين؛ هي من أعظم دواعي التأثير في النفس، من حيث تنبيهها إلى لوازم الإيمان ومقتضى الشهادتين، ومدها بزاد جديد وعطاء ثرّ من حرارة الإيمان، وعزيمة التخلص من الشوائب والأدران، بالهمّة المصرة على مغالبة الشهوات والأهواء، والنزوات والرغبات، وتجاوز المعوِّقات التي تحول بين المرء المؤمن، وبين أن يكون حيث يريد الله تعالى له، عملاً وعقيدة، وسلوكاً ومنهج حياة، وأخذاً بكل الأسباب والوسائل التي تؤدي إلى اليقظة والمنعة، والثقة والحصانة، والقوة والأصالة، على مستوى الفرد، وعلى مستوى الجماعة، وعلى مستوى الدولة كذلك.

     لا يغبْ عنك أيها المسلم ذلك، ولا يغب عنك أنه حين تكون التلبية على مثل هذا المستوى من الوعي والصدق والالتزام، وحيث تكون الأكفُّ الضارعة المرتفعة، صورة حقيقية لقلوب وعقول على المستوى المطلوب من الوعي والصدق والالتزام أيضاً، فاعلمْ إذن أن شيئاً ضخماً قد حدث في حياة المسلمين، وأن نُقْلَةً كبيرة للخير قد حققوها في حياتهم، وأن فجر الإسلام قد اقترب موعده بذلك، وموعده قد أزف، وبداية ظهوره قد أخذت تتوالى بشائرها الحبيبة الغالية.

     لا يغبْ عنك ذلك أيها الحاج الكريم، أيها القادم الوافد إلى بيت الله الحرام.. تعلن التوبة، وتجدد العهد والميثاق. واحرصْ أن تكون واحداً من العاملين لمجد الإسلام، الساعين لإعلاء كلمته، وقيام دولته، يكن لك الخير المبارك العميم في دينك ودنياك وأُخْراك.

     "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"..

     كأنَّ الحاج إذ يقولها، يتجمع كيانه كله، شعوره ولا شعوره، عقله وقلبه، حسّه وعاطفته، مداركه ومطامحه، ليكونَ له من ذلك وبسبب ذلك؛ مِثْلُ هذا التوجّه الضارع: لبيك يا رب، سوف نسرع إلى تلبية ندائك، ونُهْرَعُ إلى التزام أوامرك، ونصيخ السمع لكل ما تطلبه منا، فنسارع إلى إنفاذه، سوف نجدد التوبة والعهد والميثاق، والإنابة الصادقة، والإخبات الخاشع، سنجدد في أنفسنا ذكريات المجد والغلبة لفوز الإسلام وظهوره، تلك الذكريات الأثيرة الغالية، التي شاءت إرادتك يا رباه أن تنطلق بادئ ذي بدء من عند بيتك الحرام، ثم تمضي تجوب البلدان، تحمل الخير والنور للناس جميعاً، الناس كل الناس، في الأرض كل الأرض.

     وسنزور المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، طيبة الطيبة الحبيبة، ذلك المسجد الذي شهد ولادة المجتمع المسلم الأول بقيادة الرسول الكريم ﷺ، لنتذكر الدرس الكبير في قيامه، ونستشعر خطورة التكليف، وجدية المسؤولية، وعظمة الأمانة، ونجدد العزم أن نسير على المنهج الذي سار عليه الرسول الكريم ﷺ، ونقتدي بما كان عليه أصحابه الأطهار الأبرار، ونعقد العزم على حمل اللواء المسلم الذي عُقِدَتْ رايته أولَ ما عُقِدَتْ في رحاب الحرم الطهور في المدينة المنورة، إبان الأيام الغالية الأولى لقيام دولة الإسلام، وسنظل نحن -معشر المسلمين- نفعل ذلك حتى ننقل الراية إلى الجيل الذي بعدنا ليواصل مسيرة الإسلام المؤمنة المباركة. وسنحاول أن نتأسى بذلك الجيل الرباني القرآني الفريد الذي صاغه رسول الله ﷺ، وهذّبه وربّاه، ونمشي كما مشى، ونفعل كالذي فعل، عسى أن ندرك شيئاً من الأفق السامي الذي حلّق فيه، والمطامح الكبار التي استطاع أن يحققها في واقع الناس.

     إنه النداء الرباني السماوي الجليل "لبيك اللهم لبيك"؛ هو الذي جاء بهذه الأعداد الهائلة إلى ظلال أول بيت وضع للناس، لتلبي كلها، لتطوف كلها، لتسعى كلها، وتقف بعرفة كلها، لتتحرك في السهل والجبل، والبر والبحر والجو، لَهِجَةً بالتلبية، ناطقةً بالدعاء، خاشعةً لله، ذليلةً بين يديه، ضارعةً منيبةً إليه.

     إنه النداء الإيماني العظيم "لبيك اللهم لبيك"؛ الذي جاء بهذه الأعداد الهائلة المؤمنة جميعاً إلى مهد الإسلام الأول ومأرزه ومنطلقه، هو النداء نفسه يحدوها اليوم، لأن تصيخ السمع إلى كلمة الإسلام من جديد، فتتذكر واقع المسلمين في كل صقع من وطنها الكبير، وتضع كل طاقاتها في خدمة العقيدة التي اجتمعت عليها الأمة، والمنهج الذي على هديها سادت حضارتها في العالمين. وهو النداء نفسه الذي يدعوها لأن تعقد العزم على أن تكون وفيّةً لعهد الإسلام، صادقة مع بني الإسلام، مستجيبة لدعوة القرآن.

     وهو النداء نفسه الذي يدعو حشود الحجيج الهائلة هذه، أن تخلع عن نفسها كل ألوان الجاهليات المعاصرة، والمبادئ الدخيلة، والأفكار المستوردة، وأن يكون جميع ولائها للإسلام وحده، تدعو إليه، وتجاهد من أجله، وتسعى لإقامة دولته، وبناء مجتمعه، ورفع رايته خفاقةً عالية في ربوع العالمين.

*****

لبيك اللهم لبيك (2)

لبيك اللهم لبيك (2)

     "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

     إن لك أن تقرر بأن المسلم حين يُهل بهذه التلبية الربانية الكريمة، بحرقة وشوق، وصدق وحنان، إنما ينبغي له أن يصير إنساناً جديداً، صح منه العزم على بدء حياة جديدة، كلها نأي عن الشيطان، وطاعة للرحمن، ذلك أنه حين يلبي.. يخاطب خالقه السميع البصير، القوي العزيز، الرؤوف الرحيم، دون أن يكون ثمة حجاب أو واسطة..

     يخاطبه معترفاً بالتقصير، مقراً بالذنب، طامعاً بالتوبة والغفران، وغسل الخطايا ومحو الآثام..

     يخاطبه بذلك وبغير ذلك، فيهيج الشوق فيه، وتتضرّم العواطف الخيّرة المباركة في أعماقه، فيرق القلب، ويصفو الوجدان، ويفيض الحنان، ويشعر بأنسام الرحمة وإشراقة القبول، يتلقّاها بكينونته كلها، ويستقبلها بوجوده جميعاً فيغدو أهلاً لتلقي هذه البشائر في حركاته وسكناته، ونومه ويقظته، وطوافه وسعيه، وتعبه وراحته.

     كيف لا..!؟ وهو يعيش في هذا الجو الروحاني المبارك الذي امتد وتعاظم حتى تغلغل في أعمق أعماقه، وسرى منه مسرى النفس، وجرى فيه مجرى الدم في العروق، وتدفق في قلبه وعقله، ونفسه وروحه، وملك عليه كيانه كله، ومنافذ الحس والرؤية، وطرائق التلقّي والفهم، وأساليب التعامل والإدراك، ووسائط المعايشة بكل جوانبها، وأنماط السلوك بكل شعابه، فإذا به شلّالٌ من نور، وأَلَقٌ من هداية، وبسمة من غفران، ورضى من قبول، وينبوع من خير، ومعين من صدق وحنان، وطهر ونظافة، وسمو وارتفاع، حتى لكأنه بشرى مجسّدة من بشريات الرحمة، تكاد تقول: هنيئاً لكم أيها الحجاج!.. وطوبى لكم وحسن مآب!.. لقد تقبّل الله عز وجل منكم مسعاكم فلن تنقلبوا من ضيافته خائبين.

     ولا يخطئ المسلم أن يلمح في فريضة الحج بما تضمّنه من أركان وشروط، وواجبات ومندوبات عنواناً وعلامةً ودليلاً، على أمانة الأمة الإسلامية لما ورثت من ملة أبيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، من التوحيد النقي الخالص، الذي لا تعكِّر صفاءه شائبة قط، ومن تعظيم الله عز وجل، تعظيماً يليق به في بيته الحرام، الذي جعله مثابةً للناس وأمناً، وموسماً للجود الإلهي الكبير، حيث تتدفق رحمته الواسعة الكبيرة، على ضيوفه الشعث الغبر، القادمين من بلاد بعيدة، الباذلين المال بطيب نفس، المحتملين المشاق برضى وارتياح، فيستجيب وهو الغفور الرحيم، غافر الذنب وقابل التوب، يقبل دعاءهم، ويغفر خطاياهم، ويعطيهم عطاء القدرة التي لا حد لها، والجود الذي لا ساحل لكرمه ومنحه وسخائه.

     لا يخطئ المرء أن يلمح ذلك، ولا يخطئ كذلك أن يرى في كل شعيرة من شعائر الحج، وفي كل نسك من مناسكه، هدية من هدايا البر والجود، ورحمة سابغة غنيّة، وروضة من رياض القبول والغفران، يرتع فيها المؤمن هانئاً سعيداً، فثمة عطاء الكريم المنّان، وأكرمْ به من عطاء!.. وثمة إحسان ذي الجلال والإكرام، وما أعذبه!.. وما أغزره!.. وما أطيب عبيره الطيب، ونَشْره الذكي، ومسكه الفواح، ونوره الوهاج!..

     إنه الحج، فرصة ربانية غنية، نورانية ثرية، يبث فيها المؤمن أشواقَه الحارة، وتطلعاتِ قلبِه الملهوف، وحبَّه الصادق، ودعاءه الخاشع، ورجاءه الضارع، ودموعه الأبيّة الحرّى، التي لا تسيل إلا بين يدي خالقه عز وجل، يسكبها شوقاً إلى كل ما يرضي مولاه، وخوفاً من كل ما يسخطه ويغضبه.

     إنه مثابة الروح التي طال بها الحنين، والنفس التي ألحّ عليها الظمأ، والقلب الذي استبدّت به الأشواق، إنه المثابة التي يتلقى المؤمن في كل ساعة من ساعاتها عطاءً إلهياً مباركاً، وزاداً روحياً من السمو والتقوى، يشعر بها كل الذين تفتّحت قلوبهم للنفحات الكريمة، والتجليات الحبيبة، وزالت عن أبصارهم الغشاوة، وعن بصائرهم ران الغفلة، فإذا بهم وقد تسربلوا ثوب العبودية الخالصة لله عز وجل، وائتزروا بعزة الذلة إليه، وقوة الافتقار والتضرع له، وتجردوا من كل قوة سوى قوته، وبرئوا من كل حول سوى حوله، تماماً كما تجردوا من المخيط وتوشّحوا ملابس الإحرام، وهُرِعوا يطوفون ويسعون، ويبكون ويستغفرون.

     وما يكاد المؤمن في حجّه يفرغ من تلقّي واحدة من تلك النفحات الربانية الكريمة، حتى يسعد بثانية تليها؛ وهكذا دواليك.

     وحين تقول: عطاء الكريم الجواد فلا غرابة ولا عجب، وعندما تقول: إحسان ذي الجلال والإكرام فحدِّثْ ولا حرج، وحين تقرر بأنه الجود الرباني اللانهائي الذي لا يحده شيء قط فبالغْ ما استطعت فيما تتصور من هذا الجود، فكل الذي تتصور أقل من القليل في كرم الله عز وجل، وإذا قلت: إنه العفو والمغفرة والاستجابة فلا حرج، فالكل في رحاب البيت العتيق، وفي ضيافة رب البيت العتيق، ومن دخل هذه الرحاب فهو آمن، ومن قصد تلك الضيافة فهو فائز.

     وبعد؛.. فإننا إذ نقدم أعمق التحية والتهنئة لحجاج بيت الله الحرام، بأعظم وأكرم وأنجح رحلة يقوم بها إنسان، وإننا إذ نزف لهم بشائر الخير والقبول والفوز لا يفوتنا أن نضع أيديهم وأنفسهم، وإدراكهم ومشاعرهم على أنَّ الحج هو عهد وموثق أنْ يستقيم الحاج على دين الله، وأن يجنّد نفسه لخدمته، وأن يكون من دعاته وأنصاره، الساعين لإعلاء رايته، العاملين لطلوع فجره البهيج، المجاهدين من أجل قيام دولته، وتكوين مجتمعه، وسطوع نوره في جميع ربوع العالمين.

*****

لبيك اللهم لبيك (1)

لبيك اللهم لبيك (1)

     "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".

     هذا هو الهتاف الرباني الكريم الذي تردده الحناجر المؤمنة في رحلة الحج، تلك الرحلة الكريمة التي يجدد المسلم فيها عهده لله عز وجل، وبيعته إياه، منخلعاً عن كل ألوان الجاهلية ومبادئها الضالة، وأخلاقها الفاسدة، معلناً أن كل ولائه هو للإسلام، وللإسلام وحده.

     وإنَّ في النداء الكريم الوضيء، لبيك اللهم لبيك، كنوزاً من المعاني المشرقة الرائعة، والمشاعر السامية النبيلة، والإشراقات الروحانية النورانية، هذه الكنوز السماوية الغنيّة، الطيّبة الزكية، لها دورها الكبير في إحداث النقلة الإيمانية في حياة الحج نحو الأفضل والأكمل.

     إن مما تؤديه هذه الكنوز أنها تجعل الحاج يصحح عقيدته بادئ ذي بدء حتى يكون مسلماً تام الإسلام، مؤمناً مكتمل الإيمان، الله عز وجل هو ربه وغايته، ومحمد ﷺ نبيه وقائده وهاديه، والقرآن الكريم دستوره وإمامه وكتابه، والكعبة الغرّاء قبلته، والمسلمون عشيرته وأهله وذووه. جنسيّته هي دينه الذي ينتسب إليه، وجهده الدؤوب هو السعي لإعلاء كلمة الله عز وجل وتحكيم شريعته في الأرض.

     ومن نتائج رحلة الحج في نفس الحاج، أن يظل يحاسب نفسه، ويستشعر تقصيره، ويجافي كل ما يعوّق سيره نحو الهداية من عادات ومألوفات، وشهوات ومغريات، وأهواء وتطلعات، ويسارع إلى كل ما يستنقذه من وهدة الضعف البشري، ويحث خطاه نحو طاعة الرحمن، من عبادةٍ صادقة، وارتفاعٍ فوق السفاسف، وحملٍ للنفس على ما تكره، وتلاوةٍ متدبّرة، وذكرٍ متفكّر، وخدمةٍ لإخوانه في الله، وبذلٍ للمال والجهد والوقت والأعصاب، وعملٍ موصول من أجل إنقاذ المسلمين مما يعانون، ورغبةٍ في استئناف الحياة الإسلامية من جديد بكل أبعادها الطاهرة المباركة، وفي جميع ديار الإسلام.

     وإذا كان المرء قد وجد في التلبية أمثال هذه المعاني السامية جميعاً، فإنه كذلك أن سيجد في كل مناسك الحج الأخرى بستاناً من الخيرات، وحديقة وارفة الظلال من المعاني السامية، والتأملات الصادقة، وروضة طيبة معطارة تفوح بالنَّشْر الذكي، والمسك العاطر، والعبير الدافق.

     ويا لسعادة مَنْ فاز بهذه المعطيات الرائعة الثريّة، التي يهون المال والعمر، والوقت والجهد، والمشقة والتعب، من أجل بعض بعضها، فكيف بها كلها!؟ يا لسعادته!.. ويا لروعة ما فاز به من تعرّضٍ للرحمة الربانية التي لا تنفد خزائنها على العطاء!.. وإن كثر السائلون، ولا يَبْلى ثراؤها قط، بل إنه ليزداد، ولا يجف معينها أبداً، بل إنه ليغزر.

     يا لسعادته ويا لهناءته!.. طوبى له طوبى!.. طوبى له وحسن مآب!.. طوبى له إذ يقف بالبيت العتيق، ويسعى بين الصفا والمروة، ويقف بعرفة، ويبيت بمزدلفة، ويرمي الجمار في منى!.. طوبى له إذ يلبّي وينحر، ويحلق ويهرول، ويشد الرحال إلى مسجد الرسول الكريم ﷺ!

     طوبى له إذ يسفح العبرات متذللاً خاضعاً باكياً مستغفراً!.. طوبى له إذ يحتمل المتاعب والمشاق بنفس راضية وروح مشرقة!.. وطوبى له إذ يصبر على تبديل العادات والمألوفات والتزام التجرد عن كل مظهر يتنافى مع المساواة بين جميع القادمين!.. طوبى له إذ يفعل ذلك كله!.. فعسى أن تترك في نفسه مثل هذه المعايشة الممتازة، في هذا المناخ العظيم الرائع، جواً نفسياً عالياً، وأفقاً روحياً سامياً، وعزماً وحزماً، وهمةً وقّادة، أن يلمح بسرعة وشفافية كل خير فيسارع إليه، وكل شر فيجانبه، وأن يقرر قراراً حاسماً جازماً أن يعيش بالإسلام وللإسلام، عليه يحيا، وله يجاهد، وعليه يموت، وأن يدخل إلى ساحة المبرّات والمكرمات والفضائل، والاستقامة والعفة والطهر، والصدق والمروءة والهداية، فترسخ عطايا هذه الساحة المباركة في نفسه، وتتعمق في ذاته، لتغدو له خلقاً ثابتاً، يرافقه في حجه، وبعد منقلبه المبارك المشكور إلى أهله، وأوبته الميمونة الحميدة إلى بلده، وما أعظم هذا الكسب حين يفوز به!.. وما أكرمه من زاد يحصّله في هذه الدنيا الفانية!

     وإذا كانت كارثة الأقصى الحزين الأسير وما حوله من ديار الإسلام في فلسطين المسلمة تنزل بكلكلها الرهيب على صدر هذه الأمة المنكوبة، وما أكثر كوارث أمتنا المبتلاة في الفلبين وكشمير، وأرتيريا وتركستان، وشتى ديار الإسلام في كل مكان!.. فإن على المسلم أن يعي بدقة وجدية خطورة كارثة الأقصى، فهو جزء من دار الإسلام له حقُّ الذود والدفاع والجهاد لاستخلاصه، لكنه ينفرد عن الأجزاء الأخرى الأسيرة المنكوبة، بأنه ثالث الحرمين الشريفين، ومسرى الرسول الكريم ﷺ، وإذن فإن له علينا حقاً مضاعفاً ومسؤولية مؤكّدة، مما يجعل واجبنا في السعي من أجل إنقاذه أكبر وأخطر.

     يا أيها الإخوة الحجيج!.. يا أيها المسلمون عامة!.. حذار أن تبقى قدسكم أسيرة، وأن يبقى أقصاكم مهاناً، وأن تبقى مآذنه مكلومة، وأن يبقى أذانه جريحاً راعفاً.

     واعلموا أن السبيل الوحيد لإنقاذ القدس والأقصى وديار الإسلام جميعاً؛ إنما هو في الجهاد المؤمن الملتزم بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله الكريم ﷺ، فالبدار البدار إلى الجهاد!.. فيه ترضون ربكم، وتحرّرون بلدكم، وتقيمون دولة إسلامكم، وتشيدون مجتمعها الطاهر الذي يحكمه الإيمان والقرآن دستوراً ومنهج حياة.

*****

الجمعة، 8 سبتمبر 2023

كتاب فلسطين والقدس والأقصى - المقدمة والمحتويات

كتاب فلسطين والقدس والأقصى

المقدمة:

     هل من مناص عن معركتنا مع اليهود!؟

     سؤال قد يدور في أذهان الناظرين من بعيد!.. وقد قالها لي أخ باكستاني مرة، وهو يتحدث عن مشكلة كشمير بين باكستان والهند.

     جواب هذا السؤال ليس عندنا وحدنا، بل عند الآخرين الذين ينازعوننا في فلسطين والقدس والأقصى.. وإذا عدنا إلى النصوص التي عندنا في القرآن الكريم، وفي الحديث الشريف وجدنا أنها تقرر أن لا مناص من هذا النزاع، ليس لأننا نريد النزاع ونسعى إليه، ولكنهم (اليهود والنصارى) لا يتخلون عن ذلك.

     ونحن في العصر وأسلافنا في العصور الماضية مهما بذلنا من حسن النية، والدفع بالتي هي أحسن، وإظهار المودة، فلن ينفع في الأمر شيئاً، لأن العداوة متأصلة فيهم لا فكاك منها. وقد أثبت التاريخ ذلك مع اليهود ومع النصارى سواء، بله المشركين والفئات الكافرة الأخرى من النحل والملل. فهم في عداوتهم للمسلمين سواء في كل عصر ومصر، يصدقه قول الله تعالى: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2]، وقوله تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].

     وفلسطين والقدس والمسجد الأقصى مركز دائرة الصراع الإسلامي وغير الإسلامي، كان ومازال، وسيستمر إلى أن يشاء الله تعالى، ولله في خلقه شؤون، ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، ولكن شاء أن يجعلهم مختلفين متدافعين تدافع الحق والباطل.

     وهذه المقالات التي بين أيدينا كتبها الدكتور حيدر الغدير بجنانه، قبل أن يصوغها بلسانه، وسطرها بقلمه قبل أن ينشرها بكتابه، وجدت فيها قلباً نابضاً، ولساناً صادقاً، ويقيناً ثابتاً بموعود الله للمؤمنين من عباده، في صراع الحق والباطل، وأن الله سبحانه ناصر عبده إن نصر ربه، ومحقق وعده، في نشر نوره ولو كره الكافرون والمشركون.

     هذه المقالات قديمة جديدة، لأن موضوعها يتجدد، ويشتعل نارها، ويعلو أوارها، ويتلهب جمرها، ولا غنى عن قراءتها، لأنها توضح الحقائق، وتبني الأمل في النفوس، وتبعث النور في القلب اليؤوس.

     والدكتور حيدر الغدير قال شعراً كثيراً عن القدس والأقصى وفلسطين، وما يرتبط بها من رموز مثل عماد الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، حتى خصها بديوان من دواوينه بعنوان: "غداً نأتيك يا أقصى"، وفي هذه المقالات من الشاعرية المـتألقة ما يقارب ديوانه، ويكاد ينافسه. فجزاه الله خيراً.
شمس الدين درمش
الرياض – السبت
11 رجب 1443هـ

-------------------

المحتويات
(روابط تنقلك للمقالات)
1. مقدمة ...................................................... 2 
-----------

النصر والهزيمة بين الاعتزاز والانبهار

النصر والهزيمة بين الاعتزاز والانبهار

     الانبهار بالأعداء جرثومة تُفقِد الأمة مناعتها الذاتية، وقدرتها على النمو المستقل، تماماً كما يفقد الجسم مناعته وصحته حين تتسلل الجراثيم إلى داخله، وتتركه أسير الداء، ضعيفاً مهزولاً. والمقويات الخارجية التي تدعم أمة من الأمم تدل على أنها في حالة عجز يقارب الانهيار، تماماً كما تدل حاجة الجسم إلى المنشّطات والمقوّيات والتغذية الطبية الدائمة، أنه في حالة عجز يقارب الانهيار. والذين لا يملكون في ذواتهم إرادة الحياة المستعلية المتفوقة، لن يتمكنوا أن يظلوا دوماً على قيد الحياة من خلال الاعتماد على شتى الحقن الدائمة المستوردة من الآخرين، بحيث يعني انقطاعها عنهم، إصابتهم بالشلل والانهيار والدمار. وإذن فالمُعوّل على القوة الذاتية والإرادة المستقلة والتفوق النفسي.

     وعندما استقبل العرب المسلمون في عهد الفتوحات الأولى؛ أعداءهم من الفرس والروم، وهم أسبق منهم في العلم والصناعة والإدارة والثروة وما إلى ذلك من المادّيات لم يعاملوا أعداءهم هؤلاء على أساس الإعجاب بهم، والانبهار بالذي يملكون، لأن الذي يبدأ بالإعجاب والانبهار ينتهي بالاستسلام والهزيمة وعقد النقص المختلفة.

     بدأ المسلمون يتعاملون مع أعدائهم من خلال اعتزازهم بذاتهم، وشعورهم بنفاسة المهمة التي يحملون، وضخامة الدور الذي يؤدون، وإحساسهم أنهم رسل دين جديد ابتعثهم به الله عز وجل، لإخراج أعدائهم السابقين لهم في الماديات من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام، ومن عفن الحضارة الفاسدة إلى فجر الحضارة الجديدة المباركة.

    وقد احتقر رَبْعي بن عامر، وغيره من المسلمين الذين فاوضوا رستم في عرينه، مظاهر الترف المادي الذي غرق فيه القائد الفارسي المشهور، ولم يشعر أي مسلم بالإعجاب بالعدو نظراً لسبقه المادي، ولم يشعر أي مسلم بالخجل والنقص نظراً لتخلفه المادي والصناعي، لذلك انتصر المسلمون انتصاراً عزيزاً مؤزراً، لأن إرادتهم كانت متحررة، ونفوسهم كانت متفوقة، وشادوا على أنقاض الهالكين الخاسرين الذين كانوا سادة الأرض، حضارة حقيقية متفوقة، تعلي كرامة الإنسان إذ تطهره وتزكيه وتباركه بالإيمان. فلنبدأ اليوم بالاعتزاز بأنفسنا، واحترام تراثنا، والحرص على ذاتيتنا وأصالتنا، ولنوقن أننا متفوقون حضارياً في ظل مبادئنا الإسلامية، وأن تخلّفنا في الماديات تخلف موقوت، وعارض بوسعنا تجاوزه بالكفاح الدؤوب، وأول ما يعيننا على تجاوز هذا التخلف، إحساسنا بنفاسة دورنا في الحياة، وعظمة العقيدة التي ننتسب إليها، وتفوقنا الروحي الذي يمنحنا ثقة لا حد لها، وإرادة حية غلّابة. الأمم كلها حلت بها كوارث وهزائم، ومرّت بها عهود من الضعف، لكن الأمم الأصيلة ظلت قادرة على الدوام، على تحويل الهزيمة إلى نصر، والتخلف إلى تقدم. وأمتنا هي كذلك. لقد سقطنا عبر تاريخنا الإسلامي أكثر من مرة، ثم قمنا، وكان بإمكاننا دائماً أن ننهض، لأننا كنا نؤمن أنها كَبْوة فحسب، وأننا في جوهرنا المتفوّقون، ودربنا هو الصحيح وعقيدتنا هي السليمة. هكذا علّمنا ديننا، وتلكم من عبر تاريخنا.
*****

استمرار الحروب الصليبية

استمرار الحروب الصليبية

     إذا كانت الحروب الصليبية قد توقفت عام (690هـ/ 1291م) حين فتح الأشرف خليل قلاوون عكّا آخر معاقل الصليبيين المهمة في الشام، وفي خلال شهور أعقبت الفتح من العام نفسه، تمّت تصفية البقية القليلة من المدن الباقية بأيدي الصليبيين وهي صور وصيدا وحيفا وطرطوس وعتليت، فعادت جميع البلاد الشامية الساحلية إلى دار الإسلام، وإذا كانت صفحة الصليبيين الغربيين الذين غزوا بلاد الشام عام (490هـ/ 1097م) قد انطوت بعد قرنين من القتال الدامي، فإنه ليس معنى ذلك انتهاء قصة الحركة الصليبية التي قُدِّرَ لها أن تستمر بعد ذلك عسكرياً وفكرياً، في أصقاع شتى وبأساليب متباينة.

     إن تلك الحركة لم تتوقف، ذلك أن أوروبا بدأت بعد قليل كرةً أخرى في الأندلس، فلما تم استشهاد الأندلس تدافعت قوات أوروبا على الطريق الأفريقي بدون توقف، وتدفق الإسبان والبرتغال ومن بعدهم الهولنديون والإنكليز والفرنسيون ليضعوا أيديهم على مواقع كثيرة من بلدان المسلمين، وينزلوا بأهلها شتى ألوان القهر ردّاً لجميل المسلمين الذين أحسنوا إليهم، وقدّموا لهم نور العلم والحضارة في الأندلس وصقلية وغيرهما.

     وكان عام 1830م مؤشراً مخيفاً على بداية موجة جديدة من موجات التحرك الصليبي الجديد، وذلك حين بدأت فرنسا في غزو الجزائر، وامتدت المعركة إلى تونس فمصر والسودان، ومنذ ذلك الحين بدأت نتائج الغزو الفكري تظهر، وطلائع التبشير تعمل، وأخذت جوانب من خطة لويس التاسع ووصيته توضع موضع التنفيذ.

     ذلك أن قوات محمد علي باشا انسحبت من الشام عام 1840م، وأخذ الغرب يخطط لإقامة دولة تكون قاعدة له وشوكة في جنب المنطقة، فأخرج ما عرف فيما بعد بـ"لبنان الكبير"، ومن المعروف أن فتنة عام 1860م بين الموارنة والدروز تمت بتغذية القوى الغربية، فالفرنسيون كانوا يدعمون الموارنة، والإنكليز كانوا يدعمون الدروز، وحصلت فتنة دامية أدت إلى أن ينشأ كيان خاص في ظل الدولة العثمانية، وما زال هذا الكيان يدعّم اقتصادياً وعسكرياً وفكرياً حتى أخرجه الجنرال الفرنسي غورو الذي احتل سوريا ولبنان بعد الحرب العالمية الأولى، بصورته النهائية التي عرفت باسم "لبنان الكبير" يومذاك، وباسم "لبنان" فقط فيما بعد ذلك.
*****

الأكثر مشاهدة