الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

الجواب السديد للعمدة الرشيد

الجواب السديد للعمدة الرشيد

     حين يكون المسلمون على درجة مناسبة من حسن الوعي والفهم، وصفاء النية والقصد، وجدّية التمسّك والالتزام، إزاء دينهم، ينشأ عن ذلك عهد وثيق محكم بينه وبينهم.

     إنه عهد مأخوذ عليهم من حيث هم مسلمون، وهو حقيقة الأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض وحملها الإنسان، وهو عهد طيب كريم، طاهر الآفاق والأنفاس، نبيل الهدف والغاية، عفّ الوسيلة والطريقة، يربط الإنسان المحدود الفاني بقوة الله المطلقة العظيمة، ويبارك العمر ويرفعه، ويطهّره ويزكّيه.

     وهو عهد مسؤول على خط الالتزام البصير، والتمسك الواعي، دوراناً مع القرآن حيث دار، مهما افترق القرآن والسلطان، ومهما كانت أحجام التضحيات، ومهما اشتد بريق الرغب اللامع أو الرهب المخيف.

     وهو عهد يجعل رابطة الإيمان، وأخوّة الإسلام، أعظم رابطة تشد قلوبنا، فيكون مَنْ دخل الإسلام هذا اليوم، أقرب إلى قلوبنا، وألصق بها من الفاجر الفاسق ولو كان ذا قربة أو جوار.

     مع هذه الأخوّة الوثيقة، وعهدها الأمين، وأواصرها القوية، ووشائجها الكريمة، نلتقي بمثقف أوروبي ذكي، قادته العناية الإلهية إلى الإسلام، لنجوب معه آفاق رحلته الشجاعة بحثاً عن الحقيقة.

     لقد قام الرجل برحلات كثيرة إلى بلاد المسلمين، وكانت هذه الرحلات تنسج له خيوطاً ناعمة، خفية وظاهرة، شدّته إلى ديار العرب والمسلمين، وعاداتهم وأخلاقهم، ودينهم آخرَ المطاف. ترى أي إحساس كان يملأ منه الجوانح، يوم أن عاد إلى الغرب بعد أول رحلة قام بها في ديار الإسلام؟

     لقد ألهمتُ أولَ ما ألهمتُ في دمشق بأن طريقاً جديداً إلى الحقّ كان قد أخذ يظهر أمامي ويتكشّف، وحين عدت إلى أوروبا بعد زيارتي دياركم، وجدت أن من الصعب عليّ، أن أعيش مرة أخرى في العالم الغربي. ذلك أنني من ناحية كنت توّاقاً إلى أن أتفهّم تفهّماً عميقاً، القلق الذي أحدثته لي أولُ معرفة لي بالعرب وثقافتهم، رجاءَ أن يعينني ذلك التفهم على أن أفهم بطريقة أفضل ما كنت أنا ونفسي أتوقع من الحياة. ومن ناحية أخرى كنت قد وصلت إلى نقطة اتّضحَ لي عندها أني لن أستطيع بَعْدُ أنْ أنسجم مع أهداف المجتمع الغربي.

     لقد دخل الإسلام إلى الرجل رويداً رويداً ومن دون أن يشعر في بادئ الأمر، دخل من خلال حادثة هنا، ومناقشة هناك، دخل من خلالِ صلةٍ عابرةٍ برفيقِ سفر، وصداقةٍ وطيدةٍ بزميلٍ مقيم. دخل من خلال مواقف كثيرة، كان فيها رحيل جسدي، وتأمل باطني، ولقاءات منوّعة مع مسلمين وغير مسلمين. لقد كان في ذلك كله، يلقي عنه ثوبه الغربي ويلبس ثوبه الإسلامي. ترى، أَمَا مِنْ معالمَ بارزة يذكرها الرجل في تحوّله البطيء العميق؟

     كنت مسافراً في القطار من القاهرة إلى بورسعيد، وكان معي في العربة، تاجر يوناني، وعمدة قرية مصري. كان العمدة بالرغم من جهله، يظهر ذوقاً سليماً حادّاً. وقد أنشأت بيننا صداقةُ الرحلة جوّاً من المودّة. وتشعّب بنا الحديث، وكنا نتحدث عن بعض المبادئ الاجتماعية في الإسلام، تلك المبادئ التي كانت في ذلك الوقت تشغل حيّزاً من تفكيري. ولم يوافقْ رفيقي اليوناني المسافر، موافقةً كلية، على إعجابي بالعدالة الاجتماعية في الشريعة الإسلامية.

     ترى ماذا قال صاحبه اليوناني المعترض؟

     قال: إن الشريعة الإسلامية ليست عادلة بالمقدار الذي تعتقده يا صديقي العزيز، ثم استدار إلى زميلنا المصري قائلاً: إنكم تقولون: إنَّ دينكم عادل جداً، فهل تستطيع مثلاً أن تقول لنا: لماذا يبيح الإسلام للمسلمين أن يتزوّجوا من الفتيات المسيحيات أو اليهوديات، ولا يبيح لبناتكم وأخواتكم أن يتزوّجن من المسيحيين أو اليهود؟ هل تسمّي هذا عدلاً؟

     وماذا قال العمدة المصري؟

     قال: طبعاً أسمّيه عدلاً. هكذا أجاب العمدة الوقور دون أن يتردّدَ لحظةً واحدة. وسأخبرك لماذا جاءت شريعة الإسلام بهذا؟ نحن المسلمين لا نعتقد بأن المسيح عليه السلام هو ابن الله، ولكننا نعتبره فعلاً، كما نعتبر موسى عليه السلام، وسائر الأنبياء، رسول صدق من الله تعالى.

     فإذا تزوّجت فتاة مسيحية أو يهودية من رجل مسلم، فإن بإمكانها أن تطمئن إلى أن أحداً من الأشخاص المقدّسين في نظرها، لا يمكن أن يؤتى على ذكره بين أفراد العائلة الجديدة إلّا بكل احترام، في حين أنه من الناحية الأخرى إذا تزوّجت فتاة مسلمة من غير مسلم، فإنَّ مَنْ تعتبره رسول الله، خليق بأن يذم ويساء إليه. وهل تعتقد أنت أن من العدل تعريضها لمثل هذا الإيلام والإذلال؟

     تلكم كانت إجابة العمدة المصري، وهي إجابة ذكية موفّقة. ترى، ماذا كان موقف التاجر اليوناني منها، وأي أثر تركته هذه الإجابة في شخص صاحبنا الأوروبي الذي نجوب معاً آفاق رحلته المظفرة نحو الهداية؟

     يقول صاحبنا:

     لم يجد اليوناني ما يجيب به، إلّا أن هزَّ كتفيه، أما أنا فقد بدا لي أن العمدة الأمي البسيط، بذوقه الفطري السليم، قد أصاب كبد الحقيقة، في مسألة على جانب عظيم من الأهمية. ومرةً أخرى –كما حدث لي مع المسلم العجوز في القدس– أحسست أن باباً جديداً إلى الإسلام كان يفتح لي.
*****

حوار عميق لغربيٍّ مع الشيخ المراغي

حوار عميق لغربيٍّ مع الشيخ المراغي

     كان حواراً عميقاً، متشعباً وموصولاً، ذلك الذي ظل يجري بين الرجل وآخرين وبينه وبين نفسه. وكانت مواد هذا الحوار كثيرة متنوعة، ولا غرابة في ذلك إذ إنه عاش في الفترة الأولى من عمره، تحكمه ثقافته الأوروبية الموروثة، وعقائده التي نشأ عليها، ثم قُدر له بعد ذلك أن يلتقي بالإسلام وعالمه، دراسةً وتأملاً ومعايشة، وبدأ هذا العالم الجديد يشدّه إليه رويداً رويداً حتى فاز به في نهاية المطاف فأسلم.

     كانت أهم مواد الحوار تدور حول الأمور الأساسية الكبرى التي يختلف إزاءها العالَمان، عالَمه القديم، وعالَمه الجديد، خاصة في ميادين العقيدة والآداب والأخلاق، ثم بدرجة أقل في ميادين السياسة.

     دار هذا الحوار في أعماق الرجل، ودار بينه وبين آخرين، ينتمي بعضهم إلى عالَمه القديم الأول، وينتمي بعضهم الآخر إلى عالَمه الجديد الثاني. حوار سبق إسلامه وواكبه، ثم أعقبه بعد ذلك حوار كان همساً داخلياً، ومحاكمات ومقارنات في الأعماق، وكان أيضاً حديثاً مع كاتب هنا، ومفكر هناك، وصحفي يلتقي به، وعالم دين تجمعه به الظروف، وحاكم منطقة يمر بها في إحدى رحلاته. كان حواره، الداخلي منه والخارجي، يمثل دأباً دائباً، ووعياً صبوراً، وسعياً ملحاحاً، من أجل الهداية ومن أجل الحقيقة، ومن أجل مزيد من الاطلاع.

     قلت لصديقي اللوذعي الشيخ المراغي في إحدى المناسبات: قل لي يا شيخ مصطفى لماذا يجب أن يكون من الضروري للمرء أن يقتصر على تعليم واحد معيّن، وعلى مجموعة واحدة معينة من الوصايا؟. ألا يمكن أن يكون من الأفضل له أن يترك كل إلهام أخلاقي لصوته الداخلي؟

     ذلك ما قاله الرجل في بعض حواره للشيخ الأزهري المعروف الذي أجاب قائلاً:

     إن ما تقوله في الحقيقة يا أخي الشاب -وكان صاحبنا يومذاك لا يزال شاباً- هو: لماذا يجب أن يكون هناك أي دين نظامي!؟

     والجواب بسيط: إن عدداً قليلاً جداً من الناس هم الأنبياء وحدهم قادرون حقيقةً على أن يفهموا الصوت الداخلي الذي يتكلم في ذواتهم. إن معظمنا مقيّدون بالمصالح والرغبات الشخصية. ولو قدّر لكل واحد منا، أن يتّبع ما يمليه عليه فؤاده فحسب، إذن لسادت بيننا الفوضى الأخلاقية سيادة تامة، ولما استطعنا قط أن نتفق على أي طريقة من طرائق السلوك.

     إنك تستطيع أن تسأل بداهة ما إذا لم يكن هناك شذوذ لهذه القاعدة العامة، أعني أناساً متنوّرين يشيرون بأنهم ليسوا بحاجة إلى أنْ يُرْشَدوا فيما يعتبرونه حقاً أو باطلاً، ولكنني عندئذٍ أسألك بدوري: ألا يمكن لكثير وكثير من الناس أن يدَّعوا هذا الحق الاستثنائي؟ عندها ماذا تكون النتيجة؟

     تلكم كانت إجابة الشيخ المراغي، ولقد كانت إجابة سديدة محكمة، وهي تنهض دليلاً لا يُرد في أنه لا يمكن لأحد أن يستغني عن الدين، بحجة انصياعه لصوت الخير في أعماقه. في ضوء هذه النتيجة: كيف يمكن للرجل أن يصف دين جيله في أوروبا؟

     إن جيلي عرف ديناً إيجابياً واحداً، هو عبادة التقدم المادي. وكانت معابدُ ذلك الدين المصانعَ الجبارة، ودور العرض السينمائية، والمختبرات الكيميائية، وقاعات اللهو، والمشاريع المائية والكهربائية. وكان كُهّانها الصرافين والمهندسين والسياسيين، ونجوم السينما، والإحصائيين، وزعماءَ الصناعة، والطيارين، ومفوّضي الشعب، وكانت الخيبة الروحية متجلية في الفقدان الشامل للاتفاق على معنى الخير والشر، وفي إخضاع الأحداث الاجتماعية إلى قاعدة واحدة هي "المصلحة".

     إن الرجل يضع "المصلحة" في موضع المخطئ المسيء. يبدو للمرء ابتداءً أن المصلحة مطلب إنساني يشكل حافزاً بشرياً في كل مكان، ودافعاً إلى التقدم والعمران. أي خطر وجده الرجل في الخضوع لقاعدة "المصلحة"؟

     الخطر أن مصلحة هذا تناقض مصلحة ذاك، وأنها لا ضابط لها، تماماً كالمرأة اللعوب، إنها تنطوي على ذلك الحنين الشره إلى السلطة واللذة. لقد أدى تطبيق قاعدة المصلحة إلى انقسام المجتمع الغربي، إلى فئات متخاصمة، مسلّحة حتى أسنانها، مصممة على أن يسحق بعضها بعضاً، متى.. وفي.. وحيثما تضاربت مصالحها وأهواؤها، أما في الجانب الثقافي فقد كانت النتيجة إيجادَ نموذج إنساني اقتصرت فضيلته على مسألة النفع العملي وحده، وكان النجاح المادي، مقياسَه الأعلى للخطأ والصواب.

     وهل أدّى ذلك إلى اضطراب عميق في حياة الجيل الذي ينتمي إليه الرجل؟

     لقد بلغ الاضطراب فيها حدّاً ثقيلاً. كذلك رأيتُ مبلغ حياتنا وشقائها، وقلّة الحياة المشتركة بين الإنسان والإنسان بالرغم من هذا الإلحاح الضار الذي كاد يتميز بالهستيرية، على المجتمع والأمة. وكذلك رأيتُ مبلغ خروجنا على غرائزنا السليمة، ومبلغ الضيق والعفن الذين أصابا أرواحنا.

     إنه شقاء مرير هذا الذي يتحدث عنه. ترى ألم يدفعهم إلى البحث عن دواء في غير بلادهم؟

     لم يَبْدُ لي مطلقاً، ولا أظنه بدا لأحد من الناس حولي، أنه يمكن الحصول على جواب، أو على أجوبة جزئية على الأقل عن هذه الأمور المحيّرة من غير تجارب أوروبا الثقافية نفسها، لقد كانت أوروبا بداءة تفكيرنا ونهايته أيضاً.

     ولكنْ، أما كان في أوروبا أيّامَ جيله، من يستطيع أن يخاطبهم، عقلياً بالحجة، أو وعظياً بإثارة نوازع الخير؟

     إن الوعظ وحده، والإدراك العقلي وحده، لم يكن لهما بالطبع أن يُحدِثا تبدلاً في الاتجاه الروحي لدى المجتمع الأوروبي. لقد كانت الحاجة تدعو إلى إيمان قلبي جديد، استسلام عميق، لا يسمح بـ"إذا"، و"لكنْ". و"ربّما".. وأمثال هذه التعِلّات. ولكنْ من أين الفوز بمثل هذا الإيمان؟

     إن على أوروبا أن تستجمع شجاعتها كلَّها، للشك في أسسها الروحية والأخلاقية الخاصة، يَوْمَها لم أكنْ قد وصلتُ إلى الحد الذي أستطيع معه حتى أن أسأل نفسي ما إذا كانت الحياة الغربية في أساسها الطريقةَ الوحيدةَ الممكنة؟ كنت أحتاج وقتاً طويلاً لأتجاوز النظرة الأوروبية، الثقافية الأنانية التي اندمجتُ فيها اندماجاً كلياً فترة طويلة من الزمان قبل أن أدخل في دين الإسلام.

     لم يكن جيلي يملك سوى التسكّع اليائس وراء صيغ جديدة من التعبير في الفنون والاجتماع والسياسة. لم يكن يملك سوى ذلك الصراع العنيف بين النداءات المتناقضة للحرب، وبين المبادئ المخترعة بدقة متناهية.

     إن جميع آلاتنا، وناطحات سحابنا لم تَعُدْ تستطيع شيئاً لإعادة الوحدة إلى روحنا المحطّمة.
*****

إسلام إستيراد الأمريكي وركس الإنكليزي

إسلام إستيراد الأمريكي وركس الإنكليزي

     لقد كان سلوك المسلمين في عهد الفتوح من أكبر أسباب انتشار الإسلام بين الناس فيما امتد إليه من أصقاع، ولو كانت القوة الحربية التي أرهبت الفرس والروم هي السبب في الانتشار، لتقلّص الإسلام بتقلّص تلك القوى وانحسارها.

     إن التاريخ يثبت أن سلوك الفاتحين كان السبب الأكبر في تمسك المغلوبين بدين الغزاة حين رأوهم رسل رحمة وفضيلة، ودعاة عدل وهداية، ورجال أخوّة ومحبّة، وحمَلة دين سمح سهل لا غلو فيه ولا غموض ولا تعقيد.

     ومن حقائق التاريخ المقررة أن الأمم التي دخل المسلمون بلادها بالفتح العسكري أقل بكثير جداً من الأمم التي دخل المسلمون بلادها بدون قتال، بل عن طريق الرحلات والتجارة وما إلى ذلك.

     لقد كان التاجر المسلم الأعزل يتقدم بدينه إلى المئات والآلاف وهو غريب بينهم داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، والسلوك العملي القويم، والمعاملة الأخلاقية النبيلة، فيجد الاستجابة السريعة الواسعة لدعوته، ذلك أنه كان داعية بلسانه، وقدوة باستقامته، وأسوة حسنة بخلقه الوفي، وسلوكه الأبيّ، وعفّته وأمانته.

     وما سجّله التاريخ في هذا المضمار يجد مثيله اليوم لدى ما يقوله الإخوة المهتدون الجدد في وصف مَنْ احتكوا بهم من أفاضل المسلمين، ذلك أن هؤلاء الإخوة من المهتدين الجدد –كما تدل على ذلك كتاباتهم وأقوالهم وإجاباتهم على الأسئلة التي توجَّه إليهم– قد وجدوا في سلوك مَنْ دعوهم إلى الإسلام نبلاً حيّاً، وطهراً عالياً، واستقامة ومروءة، ورحمة حانية، وبذلاً للمعروف، وعوناً على قضاء الحاجات، وإخاءً في الله عز وجل يقوم على المحبة فيه جل شأنه دون أن يكون لذلك حظ من أمور الدنيا.

     كان إستريد هيرما سمارت الأمريكي طالباً بجامعة إلينوي في أمريكا، وقد أتيح له أن يدرس القرآن الكريم، وأن يصاحب بعض المسلمين، فوجد من إخائهم المتعاطف ما حمله على مناقشتهم والفرح بصحبتهم والاندماج فيهم، فكان أن سعد بما ينعمون من تراحم أخوي لا يعرف الغرض، ومودة ومروءة تستعليان على المنافع والمطامع. لذلك لم يكن غريباً أن يصبح هذا المجتمع النظيف الكريم مصدر إعجابه بالإسلام، وسر انجذابه إلى المسلمين. يقول الرجل في ذلك:

     "إن المسيحية تنادي بالشفقة، وأن يكون المرء حارساً لأخيه، ولكنْ إذا قورنت هذه العبارة بأخلاق المسلمين في جامعة إلينوي وأعمالهم، ومدى عطفهم بعضهم على بعض، وعلى الآخرين؛ فإنها سوف تبدو عبارة جوفاء. وسأذكر أمثلة على ذلك:

     فَمَنْ غَيْرُ المسلم يتبرع بتوصيلي إلى البيت وسط عاصفة ممطرة، وقد علمت فيما بعد أنه تلقى رسالة من عائلته بنبأ عن وفاة والده؟

     ومَن غَيْرُ المسلم يجمع التبرعات لأخيه المسلم الذي استنزف أمواله كي يتسنى له دراسة سنة أخرى لإنهاء إجازة الدكتوراه؟

     ومَن غَيْرُ المسلمين يساعدون أخاً لهم على نقل أغراضه التي ملأت ثلاث سيارات عندما طلب إليه إخلاء البيت فجأة، وقد قام بهذه العملية حوالي ثمانية عشر مسلماً؟".

     أما ركس إنجرام المهتدي الإنكليزي فيقول في بعض حديثه:

     "في الثلاثينات قدمت إلى الإسكندرية وهمت على وجهي حتى وصلت إلى دمنهور، وعلى شاطئ ترعة هناك رقدت، وفي أثناء نومي رأيت دخاناً يتجمع ثم يضيء، وصحوت وكلمة الإسلام ملء ناظري وحواسي. وفي الطريق ما مررت بقروي إلّا أقرأني السلام ودعاني للطعام وبذل جهده في إكرامي وإضافتي في منزله. أنا غربي وهم شرقيون، أختلفُ عنهم طبعاً وديناً، فما بالهم يسارعون إلى إكرامي أنا الذي رأيت كيف يرتاب الناس بعضهم في بعض؟ ولو أنك مررت على فلاح في أوربا وأقرأته السلام أكان يكرمك مثل هذا الإكرام!؟ وإذا وجدتَ رجلاً يأكل ووقفت إلى جانبه؛ فهل هو يشركك في طعامه عن طيب خاطر!؟ وهل إذا قرعت باباً يفتح لك على مصراعيه فتنزل ضيفاً كريماً!؟ تواردت هذه الخواطر على نفسي وحاولت الإجابة عنها، وعند ذلك علمت أن الإسلام هو الذي جعل تلك النفوس حية كريمة.
*****

غربي يهتدي بسلوك أهل الشام

غربي يهتدي.. بسلوك أهل الشام

     لا شيء يكشف عن صدق الناس الذين يحملون المبادئ والمذاهب والأفكار ويتبنّونها ويدعون إليها، ويعرّي أصالتهم وجدّيتهم، كأنْ يحيا الإنسان معهم في معايشة يومية متكررة، في غدوهم ورواحهم، بيعهم وشرائهم.. نومهم ويقظتهم، فرحهم وحزنهم... وما إلى هذا، ذلك أن المواقف المرتبة، واللقاءات الصناعية، والمهرجانات الرائعة، قد تخفي وراءها كذب أصحابها.. ويعلو صوت طبولها فيغطي على ما فيها من زيف وتفاهة وخواء.

     لذلك فإن كثيرين من المشهورين الذي يراهم الناس عظماء، يفقدون كثيراً من اللمعان والبريق كلما اقترب الناس منهم وشاهدوهم على حالهم الحقيقية من غير قشور أو رتوش أو طلاء.

     ومن الأدلة الناصعة على صدق أصحاب المبادئ أن يعرف الناس جوانب من حياتهم الخاصة، ورأي ذويهم فيهم، لأن حياة المرء الخاصة تكشف مدى انسجامه مع ما يعتقد، ولأن أهل الإنسان أدرى به، فهم يعلمون إن كانت صورته الخارجية أمام الناس تماثل صورته الداخلية أمامهم، أم أن بين الصورتين بوناً شاسعاً.

     وقد كانت هذه الحقيقة الكبيرة سبباً في أن شهد أحد المفكّرين الغربيين المنصفين بصدق الرسول الكريم ﷺ، لأنه لم يكن هناك أي تناقض بين حياته الخارجية وحياته الداخلية، بل كانتا متماثلتين متكاملتين منسجمتين، لهذا كان أهل بيته مؤمنين إلى أقصى حدود الإيمان بنبوّته وصدقه.

     ففي المعايشة اليومية، وفي تفاصيل الحياة الصغيرة، وفي الأعمال العادية الجزئية يستطيع المرء أن يميز صدق الناس عامة، والدعاة وأصحاب المبادئ خاصة، ولعل هذا يقدم سبباً مهماً من أسباب انتشار الإسلام في شعوب البلدان المغلوبة أيام الفتوحات الأولى، دون أن يكون له مبشرون رسميون، ودعاة موظفون، مهمتهم هي تبليغ الدين ونشره.

     إن الذي قاد الشعوب المغلوبة إلى الإسلام هو اكتشافها صحة الدين من ناحية، وصدق المسلمين من ناحية أخرى في تبنّيهم له، وحملهم إياه، وذلك من خلال معايشتها للمسلمين الفاتحين، واحتكاكها بهم في حياتهم اليومية.

     في العشرينات من هذا القرن، حلَّ في دمشق أحد المثقفين الغربيين الأذكياء، فرأى حياة الناس يومذاك، وتصرفاتهم اليومية، ما كان واحداً من أسباب إعجابه بالعرب والمسلمين، وهو الإعجاب الذي قدر له أن يتزايد وينمو وتصحبه دراسات وتأملات انتهت به إلى الإسلام.

     بانفعال نفساني تواق إلى تفهم جديد، وبعينين مفتوحتين على أشياء لم أتخيلها من قبل، كنت أتجول إبان تلك الأيام الصيفية في أزقة السوق الرئيسية في دمشق.

     هكذا طفق الرجل يتحدث عن نفسه. ولو أننا سألناه عما وقف عليه في تلك الأيام لظفرنا منه بالجواب التالي:

     وقفت على ذلك الاستقرار الروحي في حياة سكانها. إن أمنهم الباطني كان يمكن أن يُرى في الطريقة التي كان أحدهم يتصرف بها نحو الآخر، وفي الاعتبار الكبير الذي كانوا يلقون به ويودعون بعضهم بعضاً، وفي الطريقة التي كان اثنان منهما يمشيان بها معاً، يمسك أحدهما بيد الآخر، كالأطفال، لا لشيء إلّا لأنهما كانا يشعران بالود، كلٌّ نحو صاحبه، وفي الطريقة التي كان أصحاب الدكاكين يتعاملون بها بينهم.

     أولئك التجار في الحوانيت الصغيرة، أولئك الذين لا يَنُون ينادون المارة، أولئك كانوا يبدون وكأنما ليس فيهم أي قدر من الخوف أو الحسد، حتى إن صاحب الدكان يترك دكانه في عهدة جاره ومنافسه كلما دعت الحاجة إلى أن يغيب بعض الوقت.

     وما أكثر ما رأيت زبوناً يقف أمام دكان غاب عنه صاحبه!.. يتساءل في نفسه: أينتظر عودة البائع أم يذْهب إلى الدكان المجاور؟. ويتقدم التاجر المجاور المنافس، ويسأل الزبون عن حاجته، ويبيعه ما طلب من البضاعة، لا بضاعته هو، بل بضاعة جاره الغائب، ويترك له الثمن على مقعده. أين في أوربا يستطيع المرء أن يشاهد مثل هذه الصفقة!؟

     ما مِن ريب أنها صورة شيّقة تلك التي شهدها المثقف الأوربي يومذاك في دمشق، صورة حملته على أن يؤدي في أبطالها هذه الشهادة القيّمة:

     لقد بدوا لي أباةً متواضعين، مرهفي المشاعر والأحاسيس، وإذا خاطبتهم بلسانك أضاءت عيونهم السوداء بابتسامة مفاجئة، ذلك أنهم لم يكونوا انطوائيين لا يهتمون إلّا بأمورهم الخاصة. يضاف إلى ذلك أنهم يحبون الغريب. لقد كانوا سادة عظاماً، متحفظين، ومستعدين مع ذلك لتقبل أمور الحياة جميعاً.

     وبعد تجوال فكري وجسدي طويلين، اهتدى الرجل إلى الإسلام، وكانت معايشته اليومية لنماذج من المسلمين أحسنت التعبير عن ولائها للإسلام، الباب المبارك الذي قاده إلى الهداية.
*****

حسين رؤوف.. والدعوة بالقدوة الحسنة

حسين رؤوف.. والدعوة بالقدوة الحسنة

     لقد كانت القدوة الحسنة وستظل أعظم وسائل الدعاة في دعوة الناس إلى الحق وهدايته إليهم، وإذا كانت حقيقةً مقررة أن تقول: إنها من أعظم أسباب انتشار الإسلام في فترة الفتوح وما بعد الفتوح، فإنها حقيقةٌ مقررة كذلك أن تقول: إنها اليوم أيضاً من أعظم أسباب انتشار الإسلام، وإن شئت مزيداً من اليقين فادْرُسْ سِيَر المهتدين في عصرنا هذا.

     حسين رؤوف يصلح شاهداً على هذه الحقيقة، لقد كان هذا الرجل، وهذا هو اسمه بعد أن ترك المسيحية واهتدى للإسلام، مصلحاً اجتماعياً ومِن خيرة شباب الإنكليز المثقف. ولد الرجل لأبوين أحدهما يهودي والآخر كاثوليكي، ثم تربّى في مدرسة إنكليزية لم تترك في نفسه اهتماماً بالمسيحية، فاتجه إلى دراسة اليهودية فأنكر عليها أنانيتها المتعالية وازدراءها لأناس يشاركون اليهودية إنسانيتهم البشرية، ووجدها في النهاية طقوساً تشابه المسيحية في السطحية دون تأثير حي فعال في الروح الإنسانية. ثم عاشر المسلمين في لندن فشاهد من سلوكهم الذاتي ما طمأنه بداهةً إلى سمو دينهم المثالي الواقعي معاً، وقد تحدث عن ذلك فقال:

     وقد دُعِيتُ ذات يوم لمشاهدة الصلاة (يقصد صلاة المسلمين)، والمشاركة في تناول طعام الغداء الذي قُدِّمَ عقب صلاة العيد، وكان ذلك في عام 1945م؛ مما أتاح لي الفرصة لتأمل مجموعة دولية من المسلمين عن كثَب.

     لم تكن تلك المجموعة من العرب ولا من أي قومية أخرى، وإنما كانت تمثل مختلف أجناس الدنيا وطبقاتها الاجتماعية، وكان فيها شتى ألوان البشر، فقد التقيتُ ضمن هذه المجموعة بأمير تركي كما لقيت أناساً يمكن اعتبارهم في الحياة العملية من طبقة الشحاذين.

     وجلس هؤلاء وأولئك جميعاً يتناولون طعام الغداء بمناسبة العيد، بعضهم مع بعض، ولم تَبْدُ من الأغنياء أي بادرة تَنُمُّ عن التواضع المفتعل، كما لم تشمّ أي رائحة من النفاق المغرور بالنسبة للشعور بالمساواة التي كانت تنبعث من الرجال البيض وهم يتحدثون مع جيرانهم السود، ولم تَجْرِ أي محاولة للانسحاب أو الانعزال عن بقية البشر كما في اليهودية، كما لم أشاهد أي تعاظم مضحك من قِبل أي أحد منهم يتصنّع الفضيلة ويخفي الأثَرة. وهذا جو لم أعثر على مثله في مكان آخر، وحسبي أن أقول: إنني دخلت هذا الدين (يقصد الإسلام) بعد تفكير وتأمل، وبعد دراسة جميع الأديان الهامة في العالم.

     وفي مكان آخر يتحدث حسين رؤوف عن معاني المودة والكرم وحسن الضيافة التي وجدها لدى المسلمين فيقول: لقد سافرتُ إلى أقطار كثيرة في أنحاء العالم، وأُتِيحت لي فرصة كافية لملاحظة طريقة استقبال الأجانب في كل مكان، فلم أجد أحداً من أتباع الديانات الأخرى كالمسلمين في كرم ضيافتهم، وعطفهم على الغرباء المُبَرّأ من كل مصلحة.

     إن حسين رؤوف صاحب ذهن ذكي لمّاح، وهذا ما هداه إلى الأغوار العميقة بعد أن تجاوز السطح الخارجي وهو يغوص على الجواهر فيمن يتعرف إليهم من المسلمين. ولا غرابة إذن أن تجده يفرق بين التواضع الفطري السليم، وبين التواضع المُفتعل المُتَكلَّف، ويفطن إلى النفاق المغرور عند من يصطنع المساواة، والإخلاص النقي عند من يؤمن بالمساواة، ويلتزمها التزاماً جادّاً لا يعرف الغش والكذب والتمثيل.
***

     ومن خير الشهادات –في الصدد الذي نحن فيه– شهادة البارون عبد الله أرشيبالد هاملتون، وهو مسلم إنكليزي بارز حمل لقب بارون من الدرجة الثانية، وشغل منصب قائد في سلاح الدفاع الملكي البريطاني. يقول الرجل:

     كان اعتناقي للدين الإسلامي تلبية خالصة لما يمليه ضميري، ومنذ ذلك الحين وأنا أحس أني رجل أفضل، وأصبحتُ إنساناً حقيقياً. ليس هناك أي دين من الأديان تعرض لمثل ما تعرض له الإسلام من إساءة، ولكن.. يا ليت قومي يعلمون!.. أن الإسلام يمنح القوة للضعيف والغِنى للفقير.

     ويتحدث الرجل عن السلوك الإسلامي حديث المشاهد المتأمل، فيقول:

     لا أحسب أني بحاجة كبيرة إلى الحديث كثيراً عن مبدأ الأخوة العالمية بين البشر في الإسلام، فهذه حقيقة مُسلَّمٌ بها، إذ إن الأمير والحقير، والغني والفقير كلهم سواسية، وإني ألمس دائماً هذه الروح الكريمة بين إخواني المسلمين، كما أثق بحديثهم، فقد لقيت منهم كل معاملة عادلة كرجل عادي، وأخ لهم، كما تكرّموا عليّ أعظم الكرم، واستضافوني أحسن الضيافة، فأنا أشعر دائماً أني واحد منهم.
*****

الاثنين، 8 أغسطس 2022

كتاب نظرات أدبية ونقدية - المقدمة والمحتويات

كتاب نظرات أدبية ونقدية

المقــدمة

     محمد إقبال شاعر الإسلام والشرق، والمفكر والفيلسوف الإسلامي، الذي ملأ الدنيا، وشغل الكتاب والنقاد في الغرب والشرق، وفي العالمين العربي والإسلامي.

     أسرته انتقلت من الهندوسية إلى الإسلام، ونشأه والده تنشئة إسلامية عميقة الأثر، حرة التفكير، عزيزة النفس، منطلقة الروح، محلقة الخيال.

     عبَّ من الثقافة الغربية حتى الثمالة، صبوحاً وغبوقاً، ولكنه لم يَسْكَرْ بها لحظة واحدة، لأنه تلقاها بوعي حاضر، وذهن متفتح، وعرضها على ميزان القرآن الكريم، والسنة النبوية، فميز سقيمها من صحيحها، وخالصها من دخيلها، فزاد وعياً بأمته الحاضرة، لأنه أيقن بحقيقة رسالته التي يحملها إلى أمم الأرض.

     يقال: إن ما كتب عن إقبال يزيد عما كتب عن طاغور شاعر الهند العالمي الإنساني، وزاد عليه إقبال في "الإسلامي"، وكفى بهذه الزيادة شرفاً وعلواً.

     والدكتور حيدر الغدير أديب شاعر يطرب للكلمة، ويحلق مع الخيال، ويبتهج للمعنى البكر، فيقع أسير من يقرأ لهم من الشعراء والكتاب قديماً وحديثاً، ومن هؤلاء الذين أسروه إقبال، وقد خصه بعدد من القصائد منها قصيدته (أيها العائد) التي قدم لها بقوله: (من بستان إقبال)، يقول في مقدمتها:

     "قال لي؛ والوجه منه نور، والفرحة نشيد، والبسمة شكر: لقد أكرمني الله عز وجل بالحج، ففزت بحجة بعد انتظار طويل، أرجو أن تكون مبرورة، إنها حجتي الأولى، وقد تكون الأخيرة، ولن أنساها ما حييت. قلت له: ماذا تفعل في هذا السوق؟ قال: أختار هدايا من الأرض المباركة تكون أجمل قنية، وأغلى تذكار. قلت له: إليك هذه الهدية، قال: وما هي؟ قلت: قصيدة تلتقي مع ما تود، قرأها فقال: إنها هدية جميلة لي، ولكنْ أهدها أيضاً إلى (محمد إقبال)، فهي تصلح أن تكون مع روائعه الحسان في ديوانه: أرمغان حجاز".

     يقول د.حيدر في المقطع الأول:

جاءك العفوُ فخذه باليـــدينْ     وفؤاد وامق والمقــــــــلتينْ
نلته ينهـــلّ نوراً كاللجيـــنْ     أيها الزائر أرض الحرمينْ
إنه الفـوز المرجّى قد همى

     وهي من روائع أناشيد شاعرنا، أهداها إلى إقبال.

     ويقول في قصيدة أخرى بعنوان: (أعتقيني)، وقدم لها أنها "زهرة من بستان إقبال"، يقول في مطلعها:

أعتقيـــني فقد مللت وثــاقي     وخذيـني لعـــزمة وانطلاقِ
وعديني بزورة للمعــــــالي     نتساقى العلا فيحلو التساقي

     وفي قصيدته بعنوان: (نداء) قدم لها أيضاً أنها "من بستان إقبال"، قال فيها:

بينــــا أنـــا وهمومي فيّ تشــتجرُ     والعيـــش لا فرح فيه ولا ظفــــرُ
والعــمر لا خضل والنفس لا أمل     والغصن لا نضر والورد لا عطر

     وهي ثلاث قصائد في ديوانه (غداً نأتيك يا أقصى)، تنبئ عن مدى تغلغل أدب إقبال في شرايين شاعرنا وأدبه، ومن هنا جاءت هذه المقالات التي تلقي الضوء على أدب محمد إقبال عامة، وأندلسياته خاصة.

     وفي الأندلس يلتقي الشاعران، فيبكيان الماضي، ويحلمان بالمستقبل الآتي، ولا أدري إن كان يصح أن أنسب أندلسيات د.حيدر الغدير إلى تأثره بأندلسيات إقبال بعد الاطلاع على ما كتبه عن إقبال والأندلس. وزاد على ذلك بتخصيص عنوان أحد كتبه من الأندلس: "صلاة في الحمراء"، ضمنه عدداً من المقالات من مشاهداته، ومعايشته في الأندلس إبان زياراته إلى قصر الحمراء، وجامع قرطبة، ورندة وغيرها من درر الأندلس.

     والفصل الثاني من هذا الكتاب نظرات في المسرح الغربي، ومعالجاته للقدر والفن والحرية في حياة الإنسان، وهي معالجات تنطلق من نظرة وثنية، وقد وضع د.حيدر النقاط على الحروف -كما يقال- بمقالاته عامة، وبخاصة مقاليه: "الإنسان بين التوحيد والتعدد في المسرح الغربي"، و"حكمة القدر بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية".

وهذه المقالات كلها مما قدمه في برنامجه الإذاعي (أفراح الروح)، في إذاعة الرياض، أسأل الله سبحانه أن ينفع بها كاتبها، وقارئها، وناشرها. والحمد لله رب العالمين.

شمس الدين درمش

------------------

المحتــويــــــات
(روابــط قـــابلة للضغــط)

- المقدمة .................................................................... 4
- الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته ..... 6
- الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي .............. 62

حكمة القدر بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

حكمة القدر بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية

     ها هو ذا الشاعر العباسي علي بن الجَهْم يُلقى في السجن، فيتأمل الأقدار والحكمة وراء السجن، والسجن ثقيل على النفوس فيقول:

قالت: حُبِسْتَ، فقلتُ: ليسَ بضائري     حَـبْــسي، وأيُّ مهنَّــــدٍ لا يُغْـــــــمَدُ
أوَ ما رأيـــتِ اللـيــــثَ يألفُ غيـــلَهُ     كِبْــراً، وأوبـــــاش الـسبــــاعِ تَرَدَّدُ
والشـــمسُ لولا أنهــــا محجـــــوبةٌ     عــن نــــاظريكِ لما أضاءَ الفرقــــدُ
غِيَــــرُ اللـيــــالي بادئــــاتٌ عُــــوَّدٌ     والمـــالُ عـاريــــةٌ يُفــــــاد ويَنْفَـــدُ
ولكــــلِّ حــــــالٌ مُعْقِــبٌ، ولربَّمـــا     أجـــــلى لك المكروهُ عمّا يُحْــــــمَدُ

     إن الشاعر يتأمل في حكمة القدر التي سيق معها إلى السجن، فإذا به يهدأ، وإذا بنفسه تكف عن القلق، وإذا بالطمأنينة تسري في أعماقه، ذلك أنه لا ينظر إلى القدر الذي فعل به ذلك نظرة العدو للعدو، بل إن نظرته تحاول البحث عن حكمة ربما دقَّت فما رآها المرء ساعةَ المكروه، لكنها موجودة فيما وراء الشدة، وربما كان وراء الشر الظاهر خيرٌ عميق، وربما أجلى لك المكروه عما يُحْمَدُ كما يعبر الشاعر نفسُه الذي يزدحم صدره بالأمل، ويتدفق بالرجاء، ويوصي نفسه بالصبر الذي يُعْقِبُ راحةً يطمئن إليها، ثم إنه ما دام قد غشي الحبسَ لغيرِ دنيَّةٍ نكراء، فما من ضير:

لا يُؤْيسنَّــــكَ مِنْ تفــــرّجِ كربــةٍ     خطبٌ رماكَ به الزمـــــانُ الأنكدُ
واصبــرْ فإن الصبرَ يُعْقِبُ راحةً     في اليوم، تأتي أو يجيءُ بها الغدُ
كم من عليـــلٍ قد تخطّــاه الـردى     فنجـــا وماتَ طبــــيبُه والعُــــوَّدُ
والحبــــسُ ما لمْ تَغْشَـــهُ لدنيَّــــةٍ     شنعــــاءَ، نِعمَ المنـــزلُ المُتَوَرَّدُ
بيــــتٌ يُجــــدِّدُ للـكريـــمِ كرامـةً     ويُزارُ فيه، ولا يَزورُ، ويُحْقَــــدُ

     قارنْ هذا الشعور بالقدر عند ابن الجهم الذي يُلْقي الراحةَ في النفس، والسلام في الصدر، والطمأنينة في الفؤاد، والسكينة في الأعصاب بشعور الغربيين بالقدر، أولئك الذين لا يمكن أن يتصوروا أو يشعروا إلا ما تصور وشعر آباؤهم وأجدادهم من أن الفوضى تعم السماوات والأرض، والعداء لا تنطفئ شعلته بين عالمي الغيب والشهادة، والنار التي لا تهدأ سخائمها تؤجج الأحقاد بين بني الإنسان وبين القوى الأخرى التي تريد الإيقاعَ بهم، ومحقَ سعادتهم، والوقوفَ بقسوةٍ لا ترحم في دروب أهدافهم ومصائرهم.

     شتان شتان بين شعور هؤلاء، وشعور ابن الجهم!.. إنْ من حيثُ المبدأ وهو خطأ الفكرة أو صحتها، وإنْ من حيثُ العاقبة، وهو تمزقُ النفس أو توحُّدها، قلق الضمير أو سلامه، اضطرابُ الأعصاب وتوترها، أو هدوؤها وسكينتها. إن البونَ شاسع بين هذين الخطين المتباعدين المتناقضين، خطِّ الشعور الغربي الشاذ المنحرف المدمر بالقدر، وخط الشعور الإسلامي كما نجده لدى ابن الجهم مثلاً الذي يقول:

واللهُ بـــــــالغُ أمـرِهِ في خَلْقِهِ     وإليهِ مصدرنـا غداً والموردُ
ولئنْ مضيتُ لقلّما يبقى الذي     قد كادني وليجمعَنّا الموعـــدُ

     فإنه حتى لو انصرم العمر المحدود، وانقضت الحياة الفانية، ولم تشتفِ النفس الخيِّرة من ظالميها، فعدالة الله عز وجل لا بد أن تتحقق، وجزاؤه العادل لا بد أن ينال الجميع.

     أيُّ سلامٍ يتركه هذا الشعور في النفس؟! وأيُّ سكينة يبثها في الأعصاب؟! وأي طمأنينة ينشرها في الحنايا؟! إنه لشيء عظيم جداً ذلك الذي يتركه الحس الإسلامي بالقدر من هذا العطاء الخيِّر المبارك الذي يتنزل برداً وسلاماً على نفوس المصابين.

     انتقلْ من هذا الحس الرائع إلى نقيضه المدمر مما تجده في الغرب من رصيد مشترك للتراث القديم الجديد حمّل الإنسان نظرة مأساوية حزينة للعلاقات بين قوى الكون وخلائقه، بين الإنسان وخالقه، بين الغيب والحضور، فالغربيون على اختلاف اتجاهاتهم يُجمِعون على الموقف الموحد الذي يصدرون عنه، والذي كما يدلُّ عليه فَحْصُ الرؤى الغربية في هذا المضمار واحدةً واحدة، ينبثق عن الحقد والتقاتل والصراع، وحيث المنظار القاتم الأسود يصور فوضى أبدية لا تؤول إلى قاعدة، ولا تنتهي إلى مَعْلَم، ولا يقر لها قرار.

     إن التعامل مع القدر في التصور الإسلامي معاناة خصيبة غنية، لا صراعاً عابثاً، ولا تواكلاً مرذولاً، بعد بذل الجهد في الأسباب، واستفراغ الجهد والطاقة في الوسائل، لا يبقى إلا التوكلُ على الله، والتسليمُ له جل شأنه، والرضى بقضائه وقدره أيّاً كان. إن بوسعك أن تلمسَ مثل هذا الحس لدى السيّاب الذي قال بعدَ مرضٍ طال:

لكَ الحمدُ مهما استطالَ البلاءْ
ومهما استبدَّ الألمْ
لك الحمدُ إنَّ الرزايــــا عطاءْ
وإنَّ المصيباتِ بعضُ الــكرمْ
ألمْ تُعْطِني أنتَ هذا الظلامْ
وأعطيتني أنتَ هذا السَّحَرْ
فهل تشكرُ الأرضُ قَطْرَ المطرْ؟
وتغضبُ إنْ لمْ يَجُــــدْها الغمامْ؟

     إنه التسليمُ المحمود، والرضا العميق، والتوكلُ الكريم، والقَبولُ بالقدر والقضاء، وتفويضُ الأمور كلِّها إلى الله عز وجل، والأَوْبَةُ إلى رحابهِ الكريمةِ العظيمة.

*****

القدر والحرية في حس الغربيين

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

القدر والحرية في حس الغربيين

     هلُمَّ معاً نحاولْ إزاحةَ الركام الذي نلتقي به في حس الغربيين للقدر والحرية والعلاقة بينهما، لنصل إلى التصور الإسلامي، الراشد المضيء لهذه القضية البالغة الخطورة، فلنفعلْ ولنتساءلْ بعد ذلك: أثمة مبررٌ أو إيحاء بوجود صراع دائم بين الإنسان والقوى التي لا تدركها الأبصار؟ هل ثمة أساسٌ معقول للحقد والنقمة بين القدر وبين إرادة الإنسان؟ أثمة أي سبب مقبول لأن يكون القدر في موضع الحرب والقتال العنيف مع البشر؟

     من خلال التصور الإسلامي الراشد يكون الجواب على هذه الأسئلة جميعاً بالنفي، فالإنسان ما دام يهتدي في حياته بنور الله عز وجل الذي يشع على صفحات الكون، ويقدم الحلول لمشكلاتِ البشرية، ويلقي أضواءه على طبيعة العلاقة بين الخالق عز وجل وبين البشرية، ويضع المخلوق البشري في مكانة ممتازة جداً، إذ يعلن أنه أثمنُ عناصرِ الحياة وأنفسُها على الإطلاق، فسوف يرى هذا الإنسان أن إرادتَه ليست سوى امتدادٍ لقدرِ الله تعالى، الغالبِ النافذ، وأن قدرَ الله تعالى هو اليد التي تأتي للإنسان في ساعاتِ يأسهِ وتخبُّطِه، وحيرتِه وقلقه، وشقائه وأحزانه، لترفعَه إلى آفاقِ الأملِ والفرح، والسعادةِ والرجاء، لتطهره وتزكيه، وتهديه وتكرمه، وتقودَه صوب الطريق اللاحب العريض، طريق الهداية والسعادة في الدنيا والدين، وتنأى به عن الشرور والأذى، وتجنبه عثارَ الطريق وأشواكَه ورمضاءَه.

     إن الإنسان في التصور الإسلامي، النظيفِ الراشد، أكرمُ عند الله عز وجل من أن تقفَ حريتُه عاجزةً، إزاء ما يحيط بها من قيود البيئة والطبيعة، والعلاقات الاجتماعية، وأخطائه التي وقع فيها ذات يوم، ثم حاول بصدق أن ينجو منها، لأن حريتَه إنما تَسْتَمِدُّ من المعين الأكبر؛ معين قوة الله عز وجل وقدرته المطلقةِ الواسعة، وهو مَعينٌ غني كريم، ثرٌّ دفاق، يحرر الناس، ويمنحهم فرصة الاختيار والاختبار عن مسؤوليةٍ تُحْتَمَل، وأمانةٍ تُبَلَّغ، ورسالةٍ واضحة تحددُ كل شيء من قبل، فلا لَبْسَ ولا إبهام.

     والإنسان في هذا الكون ليس مجرد قطعٍ تتراصف إلى جانب بعضها، منبتَّةِ الجذور بالعالم، مقطوعةِ الأواصر بالحياة، مبتورة الوشائج بالكائنات. إن الأمر على خلاف ذلك تماماً، فالإنسان في التصور الإسلامي يعمل في انسجامٍ وتكاملٍ كوني مع الكائنات الأخرى، مرئية وغير مرئية، ضمن النسيج المتشابك المحكم لهذا الكون الذي ترتبط به مصائرُ خلائقِه وتتوحد في المدى البعيد، إنْ في عالم الغيب، وإنْ في عالم الشهادة. إنْ فيما يمتد إليه نشاطهُ المستمر الدؤوب، وإنْ فيما تعجز عنه قوتهُ الفانيةُ المحدودة.

     فهذا التصور يقف تماماً على النقيض مما وجدناه في الحس الغربي في القديم والحديث، حول القدر وحرية الإنسان، من مواقفَ عديدة، ورؤىً شتى، وتصورات متباينة، تحمل جميعاً طابَعَ الانغلاقِ على العالم والكون، والكراهية العميقة للقوى التي لا تراها العيون، وتسعى جميعاً بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تكريس الأوهام التي عَلِقَت بتصور الغربيين، وقدّمت لهم الكون منذ قدامى اليونان في صورةِ مسرحٍ لآلهةٍ مزعومة، تحرقُهم شهوة الانتقام، وتدفعُهم الأثرةُ إلى أن يرفعوا سلاحَهم القاهر في وجه الإنسان الشقي المنكود.

     إنه ليس ثمة مجال في حس الغربيين أن يروا الإنسان، كما هو في التصور الإسلامي الراشد أكرمَ عند الله عز وجل من أنْ تقف حريته حائرةً ضالة إزاء ما يحيط به من قيود البيئة والطبيعة، وآثام الماضي وأخطائه، وأنَّ بإمكان حريته أن تكسر هذا الحصار، وتفكَّ هذا الطوق، وتشكِّلَ مستقبلها ومصيرها. إن الإسلام يوقد في الإنسان شعورَه بكرامته، وإحساسَه بِقَدْرِهِ الكبير، ويُشْعِره أن ثمة قوةً كبيرة علوية، أكبر من البيئة والطبيعة والأخطاء، تسندُه وتقويه، وتريدُ له الخير، وتحبُّ له الهداية، وتفرحُ له إنْ أدركَ طريق السعادة والهناء.

     أثمة مجال لدى الغربيين لأن يقف الإنسان موقفَ الهادئ المتبصّر ليعرف مَنْ هو؟ وما مكانُه في الحياة؟ وما دورُه؟ وما غايتُه؟ وأن يعملَ جاهداً على توجيه حريتهِ لتنسجمَ مع حريات الآخرين، وأن يجاهدَ ليكونَ مصيره متوحداً تماماً مع تجربة حياته على الأرض، بدلاً من أن يعلنَ تمردَه الأعمى ضد هذه القوى، ويصطرعَ معها؟ الجواب: لا، وهو جوابٌ تشهدُ عليه أدلةٌ لا تحصى من شواهدِ الحياة الغربية.

     أما التصور الإسلامي فهو يهتفُ أَنْ نعَمْ، فللإنسان أن يسعدَ ويهنأ، ويطيبَ ويصفو، لا من خلال الصراع والعداء، بل من خلال الانسجام والتعاون، والتوحد والترابط مع الآخرين، ومن خلال طاعته لله عز وجل وانسجامه مع هديه الكريم. 

*****

الإنسان بين التوحيد والتعدد في المسرح الغربي

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

الإنسان بين التوحيد والتعدد في المسرح الغربي

     حين ينحرف الإنسان عن العبادة الحقة لله الحق، فإنه يسقط على الفور في شَرَكِ أحطِّ العبوديات، عبودية الهوى، وعبودية المال، وعبودية التراب وما إلى ذلك، فإذا به بدلاً من أن يعبد الله الواحد القهار فقط، دون أي شريك آخر، يعبد كثيراً من الأصنام، سواء كانت مادية أم معنوية. ولذلك إذا كانت السمة الأولى للإسلام هي التوحيد؛ فإن السمة الأولى للجاهلية هي التعدد، سواء كان هذا التعدد واضحاً مباشراً، أم خافياً ضمنياً.

     وجاهلية الحضارة اليونانية –التي لها أكبر الأثر في الحضارة الغربية المعاصرة– كانت تؤمن بكثير من الآلهة المزعومة، يدرك ذلك جيداً كلُّ مَنْ عرف شيئاً من أساطيرهم الوثنية المشهورة، التي عُنِيَتْ بها وبخرافاتها العجيبة، حضارةُ الغرب المعاصر، عنايةً بالغةً فائقة، واستلهمتها كثيراً في الآداب والفنون بأنواعها، لكنها في المسرح أظهر منها في أي باب آخر.

     وبصرف النظر عن فكرة التعدد في ذاتها، وما فيها من خطأ بالغ، وظلم للحقيقة، فقد أضافت الجاهلية اليونانية القديمة إليها فكرة العداوة الضارية بين البشر وبين أولئك الآلهة المزعومين، وخير مثال لذلك أسطورة "برومِيثيوس" سارق النار المقدسة. كان بروميثيوس هذا يستخدمه كبير الآلهة المزعومة "زيوس" في خَلْقِ الناس من الماء والطين، وقد أحس بالعطف على البشر، فسرق لهم النار المقدسة من السماء وأعطاها لهم، فعاقبه "زيوس" على ذلك بأن قيده بالسلاسل في جبال القوقاز، حيثُ وَكَّلَ به نَسْراً يرعى كبده طوال النهار، وتتجدد الكبد في الليل، ليتجدد عذابه في النهار، وهكذا دواليك. وليس من ذنب لـ"بروميثيوس" إلا أنه أراد أن يعاون الناس بالنار فسرقها لهم فاستحق هذه العقوبة، على أن "زيوس" لم يكتفِ بمعاقبة سارق النار بل أراد أن ينتقم من البشر أنفسِهم، فأرسل إليهم "باندورا" أول كائن أنثوي على وجه الأرض، ومعها صندوق مغلق فيه كافة الشرور ليدمر الجنس البشري بذلك، فلما تزوجها "إبيميثيوس" أخو "بروميثيوس" وتقبل منها هدية "زيوس" فتح الصندوق فانتثرت وانتشرت الشرور وملأت وجه الأرض.

     تلك هي طبيعة العلاقة بين الله عز وجل وبين البشر في حس اليوناني القديم. إنها علاقة عداوة وبغضاء، وتربص وشر، تدل هذه الأسطورة عليها بشكل شديد الوضوح، فالنار المقدسة نار المعرفة، قد استولى عليها البشر اغتصاباً وسرقة، على الرغم من إرادة "زيوس"، ليعرفوا أسرار الكون والحياة، و"زيوس" كان يريد لهم أن يظلوا في جهل مطبق فساءه هذا العمل، فوزع بينهم الشرور عن طريق حيلة الصندوق الذي حملته "باندورا"، وصبَّ نكال عذابه على "بروميثيوس" ذلك الذي عطف على البشر وسرق لهم النار ليستفيدوا منها.

     ولقد قالت أوروبا في جاهليتها الحديثة كلاماً كثيراً جداً عن الأساطير اليونانية المختلفة، وعن دلالاتها وإيحاءاتها، وعن هذه الأسطورة بالذات، لقد قالت عنها: إنها تمثل صراع الإنسان لإثباتِ ذاته، إثباتِ وجوده، إثباتِ فاعليته وإيجابيته، وأن عصيانَه وتمرده، إنما هو برهان الإيجابية والفاعلية، وإثبات الذات.

     إنه جهل مطبق فاحش الغلط يصفه الأستاذ محمد قطب بقوله: "إنه انحراف بشع تكاد تنفرد به –فيما أعلم– تلك الجاهلية اليونانية، فالجاهليات الأخرى –فيما أعلم كذلك– قد توهّمت وجود آلهة متعددة، وجعلت من بعض هؤلاء الآلهة؛ آلهةً شريرين، صناعتهم الشر والانتقام والإيقاع بالإنسان بلا غاية سوى التدمير والإهلاك، ولكن الجاهلية اليونانية وحدها هي التي اختصت بتصوير هذا الصراع المنفِّر بين البشر والآلهة المزعومة من أجل إثبات فاعلية الإنسان وإيجابيته، فكَتَبَتِ اللعنة على الإنسان أنه لا يُثْبِت ذاته إلا على حساب عقيدته، وأن ضميره لا يصطلح مع الله فلا يقوم الوئام في داخل نفسه بين رغبته الفطرية في إثبات ذاته، ورغبته الفطرية في الإيمان بالله".

     لقد تسربت هذه الأسطورة في أعماق اليوناني القديم، ووارثه الغربي الحديث وهي في الغرب اليوم، تستكن في لا شعور أبنائه ووعيهم الباطن، وتترك لديهم إحساساً واضحاً أو مبهماً بأن المرء لا يستطيع إثبات ذاته إلا من خلال الصراع بينه وبين إرادة الله التي تقسو عليه وتضطهده كما يتوهمون، وهذا يقود من دون ريب إلى نتاج مُرٍّ وخيم، وهو بالضبط عكس ما يتركه الإسلام في حس المسلم من أنه قادر على إثبات ذاته والتفوق والابتكار لا من خلال الصراع، بل من خلال طاعة الله عز وجل، والانسجام مع تعاليمه الكريمة التي تريد له الخير والسعادة في دينه ودنياه، وتحاول أن تجنبه الشرور والمهالك، وتمد له يد العون والغوث والهداية.

*****

القدر والحرية في المسرح الغربي

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

القدر والحرية في المسرح الغربي

     يمكن لك أن ترى في النشاط المسرحي، للغربيين المعاصرين، فكرة القدر الغالب من جهة، والحرية التي تحاول الظفر من جهة أخرى، تظهر بصور شتى وأشكال مختلفة لترسمَ ظلالاً كئيبة في حس الغربي ووجدانه، وتجعل حياته نهباً لشتى الصراعات، وتنأى به عن سلام القلب، وراحة الوجدان، وطمأنينة السريرة، فإذا به يشعر أنه ضعيفٌ مغلوب يُراد به الشر، ويُكادُ له من قِبَلِ قوى أعظم منه وأكبر، لا مفر له من مجابهتها، ولا سبيلَ له إلى تأكيد ذاته، وإثبات وجوده وفاعليته إلا من خلال الصراع معها.

     إنه موقف يمكن لك أن تتبينَ من خلاله ماذا يدور في حس القوم وشعورهم الواعي منه والباطن؛ عن ماهية العلاقة بين الله عز وجل وبين الإنسان، عن طبيعة الصلة التي تقوم بين الفرد الأعزل وبين القوة التي تنأى عن الأبصار، وتمارس إرادتها ضدَّه بشكل أو بآخر.

     إنه المنطلَقُ اليونانيُّ القديم الذي انبثق عنه المسرح الغربي أولَ مرة، وأخرج للناس أولى التراجيديات الكبرى، واستمر يصدر عن مَعينه هذا عبر العصور المختلفة شعورٌ بالصراع لا بالوئام، وبالسوء لا بالنفع، وبالأذى والشر لا بالمعروف والخير.

     وفي عصرنا الحاضر لم يتبدل هذا الشعور قط، ولم يفقد دلالته وإيحاءه العميق، بل على العكس ازداد إيحاءً ودلالة، إن بوسعك أن تتأكد من ذلك من خلال نظر فاحص في المسرح الغربي المعاصر، فلا تخطئ أن ترى فيه العلاقة بين الله تعالى وبين الإنسان؛ تُصَوَّرُ على ذلك النحو الخاطئ الذي يبدو فيه الإنسان ريشة تافهة تذروها الرياح العاصفة الهوجاء، أو ذرة تائهة تتقاذف مصيرَها الإرادة الغالبة، لا حولَ لها ولا طَوْل.

     ولقد أثّرت طبيعة أوروبا، وتكوينها الجغرافي والبشري مضافاً إليه ضآلة استفادتها من هدي المسيح عليه الصلاة والسلام، على تصور العلاقة بين الإنسان والقوى الغيبية، فأقامتها على قواعدَ من الصراع والعداء والحقد الذي لا ينضب له معين، يظهر ذلك حتى لدى أشد المسرحيين الغربيين بعداً عن الإيمان بالله عز وجل، حيث لا يخلو مسرحه من هذا الإيحاء المسيطر على أعصاب الغربي، وذهنه، وشعوره ولا شعوره، وهو أنَّ هناك قوة لا تراها العيون هي التي تحدد مصائر الناس، وتعبث بوجودهم، وتهزأ منهم وتسخر، وتقسو عليهم وتضطهد، سواء كانت تلك القوة روحيةً غيبية، أم طبيعيةً اجتماعية، أم ماديةً جبرية، وسواءً جاءت من فوقٍ، أم انبثقت من تحتٍ.

     يقول الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل: هذا هو موقف الإنسان الغربي من القدر، ابتداء من "سلاكرو" حيث الجبريةُ المطلقة، وحتى "سارتر" حيث الحريةُ المطلقة، يصدُر الجميع على ما بينهم من تفاوت عميق عن موقف واحد، ويتحركون على أرضية واحدة، يمكن تلخيصها بأنها الصراع مع القوى المحيطة بالإنسان، والكفاح الدائم ضد العالم الذي يضطرب فيه.

     إن القدر الذي تصب فيه هذه القوى جميعاً هو عدو لدود للإنسان، يسعى إلى سحقه، ويهدف إلى دماره، لا لشيء إلا لأنه يمتلك من أسباب القوى ما يستطيع به أن يتحدى الإنسان الضعيف العاجز المجرد من السلاح، ومن ثم تختلف مواقف الغربيين من هذا العناء المسلَّط على رقاب الناس؛ فمنهم من أعلن استسلامه المطلق وحنى رأسه لمعاول القدر تنزل فتهشمها تهشيماً لا يرحم، ومنهم مَنْ حاول أن يبحث عن أسباب هذا العناء في داخل الإنسان، في عالمه الباطني، وفي الأرض التي يتحرك عليها، وآخرون دفعهم هذا الموقف المريع إلى أن يتمردوا على القدر، وأن يلغوه من حسابهم إلغاءً، وأن يعلنوا من جهتهم حرية الإنسان، وقدرته الذاتية على الوصول إلى مصيره دونما خوف أو إرهاب ينصب عليه، من فوقه أو من أعماق ذاته.

     إن هذه النظرة العدائية، ذاتَ الإيحاءِ المحزن المدمر، والأثرِ العنيف المرهق، وهذا الموقف الذي يقوم على الصراع والتقاتل، والتدافع والكيد، والإضرار والأذى، هما نتاج تصورٍ منقوشٍ في ذهن الغربي، مستكنٍّ في أعماقه، متغلغلٍ في خلاياه جميعاً، وحسٍّ مطبوعٍ في أعصابه ودمه، ووجدانه وعقله، ووعيه الظاهر والباطن، وشعوره ولا شعوره، منذُ عصورِ أجداده اليونان القدماء الذي أرسوا الدعائم الأولى لهذا الموقف المحزن بين الإنسان وقدره.

     وما مِن ريب أنه كان لهذا كلِّه أثرٌ كبير فيما يعانيه الغربي المعاصر من تمزق داخلي، وتآكل نفسي، وبُعدٍ عن الانسجام والتواؤم، والرضى والسكينة.

*****

الأكثر مشاهدة