الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

حوار عميق لغربيٍّ مع الشيخ المراغي

حوار عميق لغربيٍّ مع الشيخ المراغي

     كان حواراً عميقاً، متشعباً وموصولاً، ذلك الذي ظل يجري بين الرجل وآخرين وبينه وبين نفسه. وكانت مواد هذا الحوار كثيرة متنوعة، ولا غرابة في ذلك إذ إنه عاش في الفترة الأولى من عمره، تحكمه ثقافته الأوروبية الموروثة، وعقائده التي نشأ عليها، ثم قُدر له بعد ذلك أن يلتقي بالإسلام وعالمه، دراسةً وتأملاً ومعايشة، وبدأ هذا العالم الجديد يشدّه إليه رويداً رويداً حتى فاز به في نهاية المطاف فأسلم.

     كانت أهم مواد الحوار تدور حول الأمور الأساسية الكبرى التي يختلف إزاءها العالَمان، عالَمه القديم، وعالَمه الجديد، خاصة في ميادين العقيدة والآداب والأخلاق، ثم بدرجة أقل في ميادين السياسة.

     دار هذا الحوار في أعماق الرجل، ودار بينه وبين آخرين، ينتمي بعضهم إلى عالَمه القديم الأول، وينتمي بعضهم الآخر إلى عالَمه الجديد الثاني. حوار سبق إسلامه وواكبه، ثم أعقبه بعد ذلك حوار كان همساً داخلياً، ومحاكمات ومقارنات في الأعماق، وكان أيضاً حديثاً مع كاتب هنا، ومفكر هناك، وصحفي يلتقي به، وعالم دين تجمعه به الظروف، وحاكم منطقة يمر بها في إحدى رحلاته. كان حواره، الداخلي منه والخارجي، يمثل دأباً دائباً، ووعياً صبوراً، وسعياً ملحاحاً، من أجل الهداية ومن أجل الحقيقة، ومن أجل مزيد من الاطلاع.

     قلت لصديقي اللوذعي الشيخ المراغي في إحدى المناسبات: قل لي يا شيخ مصطفى لماذا يجب أن يكون من الضروري للمرء أن يقتصر على تعليم واحد معيّن، وعلى مجموعة واحدة معينة من الوصايا؟. ألا يمكن أن يكون من الأفضل له أن يترك كل إلهام أخلاقي لصوته الداخلي؟

     ذلك ما قاله الرجل في بعض حواره للشيخ الأزهري المعروف الذي أجاب قائلاً:

     إن ما تقوله في الحقيقة يا أخي الشاب -وكان صاحبنا يومذاك لا يزال شاباً- هو: لماذا يجب أن يكون هناك أي دين نظامي!؟

     والجواب بسيط: إن عدداً قليلاً جداً من الناس هم الأنبياء وحدهم قادرون حقيقةً على أن يفهموا الصوت الداخلي الذي يتكلم في ذواتهم. إن معظمنا مقيّدون بالمصالح والرغبات الشخصية. ولو قدّر لكل واحد منا، أن يتّبع ما يمليه عليه فؤاده فحسب، إذن لسادت بيننا الفوضى الأخلاقية سيادة تامة، ولما استطعنا قط أن نتفق على أي طريقة من طرائق السلوك.

     إنك تستطيع أن تسأل بداهة ما إذا لم يكن هناك شذوذ لهذه القاعدة العامة، أعني أناساً متنوّرين يشيرون بأنهم ليسوا بحاجة إلى أنْ يُرْشَدوا فيما يعتبرونه حقاً أو باطلاً، ولكنني عندئذٍ أسألك بدوري: ألا يمكن لكثير وكثير من الناس أن يدَّعوا هذا الحق الاستثنائي؟ عندها ماذا تكون النتيجة؟

     تلكم كانت إجابة الشيخ المراغي، ولقد كانت إجابة سديدة محكمة، وهي تنهض دليلاً لا يُرد في أنه لا يمكن لأحد أن يستغني عن الدين، بحجة انصياعه لصوت الخير في أعماقه. في ضوء هذه النتيجة: كيف يمكن للرجل أن يصف دين جيله في أوروبا؟

     إن جيلي عرف ديناً إيجابياً واحداً، هو عبادة التقدم المادي. وكانت معابدُ ذلك الدين المصانعَ الجبارة، ودور العرض السينمائية، والمختبرات الكيميائية، وقاعات اللهو، والمشاريع المائية والكهربائية. وكان كُهّانها الصرافين والمهندسين والسياسيين، ونجوم السينما، والإحصائيين، وزعماءَ الصناعة، والطيارين، ومفوّضي الشعب، وكانت الخيبة الروحية متجلية في الفقدان الشامل للاتفاق على معنى الخير والشر، وفي إخضاع الأحداث الاجتماعية إلى قاعدة واحدة هي "المصلحة".

     إن الرجل يضع "المصلحة" في موضع المخطئ المسيء. يبدو للمرء ابتداءً أن المصلحة مطلب إنساني يشكل حافزاً بشرياً في كل مكان، ودافعاً إلى التقدم والعمران. أي خطر وجده الرجل في الخضوع لقاعدة "المصلحة"؟

     الخطر أن مصلحة هذا تناقض مصلحة ذاك، وأنها لا ضابط لها، تماماً كالمرأة اللعوب، إنها تنطوي على ذلك الحنين الشره إلى السلطة واللذة. لقد أدى تطبيق قاعدة المصلحة إلى انقسام المجتمع الغربي، إلى فئات متخاصمة، مسلّحة حتى أسنانها، مصممة على أن يسحق بعضها بعضاً، متى.. وفي.. وحيثما تضاربت مصالحها وأهواؤها، أما في الجانب الثقافي فقد كانت النتيجة إيجادَ نموذج إنساني اقتصرت فضيلته على مسألة النفع العملي وحده، وكان النجاح المادي، مقياسَه الأعلى للخطأ والصواب.

     وهل أدّى ذلك إلى اضطراب عميق في حياة الجيل الذي ينتمي إليه الرجل؟

     لقد بلغ الاضطراب فيها حدّاً ثقيلاً. كذلك رأيتُ مبلغ حياتنا وشقائها، وقلّة الحياة المشتركة بين الإنسان والإنسان بالرغم من هذا الإلحاح الضار الذي كاد يتميز بالهستيرية، على المجتمع والأمة. وكذلك رأيتُ مبلغ خروجنا على غرائزنا السليمة، ومبلغ الضيق والعفن الذين أصابا أرواحنا.

     إنه شقاء مرير هذا الذي يتحدث عنه. ترى ألم يدفعهم إلى البحث عن دواء في غير بلادهم؟

     لم يَبْدُ لي مطلقاً، ولا أظنه بدا لأحد من الناس حولي، أنه يمكن الحصول على جواب، أو على أجوبة جزئية على الأقل عن هذه الأمور المحيّرة من غير تجارب أوروبا الثقافية نفسها، لقد كانت أوروبا بداءة تفكيرنا ونهايته أيضاً.

     ولكنْ، أما كان في أوروبا أيّامَ جيله، من يستطيع أن يخاطبهم، عقلياً بالحجة، أو وعظياً بإثارة نوازع الخير؟

     إن الوعظ وحده، والإدراك العقلي وحده، لم يكن لهما بالطبع أن يُحدِثا تبدلاً في الاتجاه الروحي لدى المجتمع الأوروبي. لقد كانت الحاجة تدعو إلى إيمان قلبي جديد، استسلام عميق، لا يسمح بـ"إذا"، و"لكنْ". و"ربّما".. وأمثال هذه التعِلّات. ولكنْ من أين الفوز بمثل هذا الإيمان؟

     إن على أوروبا أن تستجمع شجاعتها كلَّها، للشك في أسسها الروحية والأخلاقية الخاصة، يَوْمَها لم أكنْ قد وصلتُ إلى الحد الذي أستطيع معه حتى أن أسأل نفسي ما إذا كانت الحياة الغربية في أساسها الطريقةَ الوحيدةَ الممكنة؟ كنت أحتاج وقتاً طويلاً لأتجاوز النظرة الأوروبية، الثقافية الأنانية التي اندمجتُ فيها اندماجاً كلياً فترة طويلة من الزمان قبل أن أدخل في دين الإسلام.

     لم يكن جيلي يملك سوى التسكّع اليائس وراء صيغ جديدة من التعبير في الفنون والاجتماع والسياسة. لم يكن يملك سوى ذلك الصراع العنيف بين النداءات المتناقضة للحرب، وبين المبادئ المخترعة بدقة متناهية.

     إن جميع آلاتنا، وناطحات سحابنا لم تَعُدْ تستطيع شيئاً لإعادة الوحدة إلى روحنا المحطّمة.
*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة