الجواب السديد للعمدة الرشيد
حين يكون المسلمون على درجة مناسبة من حسن الوعي والفهم، وصفاء النية والقصد، وجدّية التمسّك والالتزام، إزاء دينهم، ينشأ عن ذلك عهد وثيق محكم بينه وبينهم.
إنه عهد مأخوذ عليهم من حيث هم مسلمون، وهو حقيقة الأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض وحملها الإنسان، وهو عهد طيب كريم، طاهر الآفاق والأنفاس، نبيل الهدف والغاية، عفّ الوسيلة والطريقة، يربط الإنسان المحدود الفاني بقوة الله المطلقة العظيمة، ويبارك العمر ويرفعه، ويطهّره ويزكّيه.
وهو عهد مسؤول على خط الالتزام البصير، والتمسك الواعي، دوراناً مع القرآن حيث دار، مهما افترق القرآن والسلطان، ومهما كانت أحجام التضحيات، ومهما اشتد بريق الرغب اللامع أو الرهب المخيف.
وهو عهد يجعل رابطة الإيمان، وأخوّة الإسلام، أعظم رابطة تشد قلوبنا، فيكون مَنْ دخل الإسلام هذا اليوم، أقرب إلى قلوبنا، وألصق بها من الفاجر الفاسق ولو كان ذا قربة أو جوار.
مع هذه الأخوّة الوثيقة، وعهدها الأمين، وأواصرها القوية، ووشائجها الكريمة، نلتقي بمثقف أوروبي ذكي، قادته العناية الإلهية إلى الإسلام، لنجوب معه آفاق رحلته الشجاعة بحثاً عن الحقيقة.
لقد قام الرجل برحلات كثيرة إلى بلاد المسلمين، وكانت هذه الرحلات تنسج له خيوطاً ناعمة، خفية وظاهرة، شدّته إلى ديار العرب والمسلمين، وعاداتهم وأخلاقهم، ودينهم آخرَ المطاف. ترى أي إحساس كان يملأ منه الجوانح، يوم أن عاد إلى الغرب بعد أول رحلة قام بها في ديار الإسلام؟
لقد ألهمتُ أولَ ما ألهمتُ في دمشق بأن طريقاً جديداً إلى الحقّ كان قد أخذ يظهر أمامي ويتكشّف، وحين عدت إلى أوروبا بعد زيارتي دياركم، وجدت أن من الصعب عليّ، أن أعيش مرة أخرى في العالم الغربي. ذلك أنني من ناحية كنت توّاقاً إلى أن أتفهّم تفهّماً عميقاً، القلق الذي أحدثته لي أولُ معرفة لي بالعرب وثقافتهم، رجاءَ أن يعينني ذلك التفهم على أن أفهم بطريقة أفضل ما كنت أنا ونفسي أتوقع من الحياة. ومن ناحية أخرى كنت قد وصلت إلى نقطة اتّضحَ لي عندها أني لن أستطيع بَعْدُ أنْ أنسجم مع أهداف المجتمع الغربي.
لقد دخل الإسلام إلى الرجل رويداً رويداً ومن دون أن يشعر في بادئ الأمر، دخل من خلال حادثة هنا، ومناقشة هناك، دخل من خلالِ صلةٍ عابرةٍ برفيقِ سفر، وصداقةٍ وطيدةٍ بزميلٍ مقيم. دخل من خلال مواقف كثيرة، كان فيها رحيل جسدي، وتأمل باطني، ولقاءات منوّعة مع مسلمين وغير مسلمين. لقد كان في ذلك كله، يلقي عنه ثوبه الغربي ويلبس ثوبه الإسلامي. ترى، أَمَا مِنْ معالمَ بارزة يذكرها الرجل في تحوّله البطيء العميق؟
كنت مسافراً في القطار من القاهرة إلى بورسعيد، وكان معي في العربة، تاجر يوناني، وعمدة قرية مصري. كان العمدة بالرغم من جهله، يظهر ذوقاً سليماً حادّاً. وقد أنشأت بيننا صداقةُ الرحلة جوّاً من المودّة. وتشعّب بنا الحديث، وكنا نتحدث عن بعض المبادئ الاجتماعية في الإسلام، تلك المبادئ التي كانت في ذلك الوقت تشغل حيّزاً من تفكيري. ولم يوافقْ رفيقي اليوناني المسافر، موافقةً كلية، على إعجابي بالعدالة الاجتماعية في الشريعة الإسلامية.
ترى ماذا قال صاحبه اليوناني المعترض؟
قال: إن الشريعة الإسلامية ليست عادلة بالمقدار الذي تعتقده يا صديقي العزيز، ثم استدار إلى زميلنا المصري قائلاً: إنكم تقولون: إنَّ دينكم عادل جداً، فهل تستطيع مثلاً أن تقول لنا: لماذا يبيح الإسلام للمسلمين أن يتزوّجوا من الفتيات المسيحيات أو اليهوديات، ولا يبيح لبناتكم وأخواتكم أن يتزوّجن من المسيحيين أو اليهود؟ هل تسمّي هذا عدلاً؟
وماذا قال العمدة المصري؟
قال: طبعاً أسمّيه عدلاً. هكذا أجاب العمدة الوقور دون أن يتردّدَ لحظةً واحدة. وسأخبرك لماذا جاءت شريعة الإسلام بهذا؟ نحن المسلمين لا نعتقد بأن المسيح عليه السلام هو ابن الله، ولكننا نعتبره فعلاً، كما نعتبر موسى عليه السلام، وسائر الأنبياء، رسول صدق من الله تعالى.
فإذا تزوّجت فتاة مسيحية أو يهودية من رجل مسلم، فإن بإمكانها أن تطمئن إلى أن أحداً من الأشخاص المقدّسين في نظرها، لا يمكن أن يؤتى على ذكره بين أفراد العائلة الجديدة إلّا بكل احترام، في حين أنه من الناحية الأخرى إذا تزوّجت فتاة مسلمة من غير مسلم، فإنَّ مَنْ تعتبره رسول الله، خليق بأن يذم ويساء إليه. وهل تعتقد أنت أن من العدل تعريضها لمثل هذا الإيلام والإذلال؟
تلكم كانت إجابة العمدة المصري، وهي إجابة ذكية موفّقة. ترى، ماذا كان موقف التاجر اليوناني منها، وأي أثر تركته هذه الإجابة في شخص صاحبنا الأوروبي الذي نجوب معاً آفاق رحلته المظفرة نحو الهداية؟
يقول صاحبنا:
لم يجد اليوناني ما يجيب به، إلّا أن هزَّ كتفيه، أما أنا فقد بدا لي أن العمدة الأمي البسيط، بذوقه الفطري السليم، قد أصاب كبد الحقيقة، في مسألة على جانب عظيم من الأهمية. ومرةً أخرى –كما حدث لي مع المسلم العجوز في القدس– أحسست أن باباً جديداً إلى الإسلام كان يفتح لي.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق