الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

جولة في أعماق رجل غربي أسلم

جولة في أعماق رجل غربي أسلم

     فقراء إلى الأعماق، أولئك الذين يمتلكون المتاع الكثير والمال الوفير، إذا لم يملكوا مع هذا كله، وقبل هذا كله سعادة باطنية، وأمناً داخلياً عميقاً، وتواؤماً وانسجاماً بين مملكتي الإنسان الداخلية والخارجية.

     ما فائدة أن تملك كل شيء وأنت في قلق!؟ ما جدوى أن تحيط نفسك بالرياش والأثاث والطنافس، وتسكن في بيت فاخر، وتملك السيارات الفارهة، والأموال الكثيرة، والأسهم الرابحة الهائلة، وأنت في داخلك تعاني الألم والوحدة، والحيرة والأسى، والتمزق واليأس، محزون مهزوم مقرور كريشة في رياح الشتاء!؟

     إنها لتعاسة حقاً أن تملك كل شيء وتخسر نفسك، أن تتحكم في أشياء خارجية كثيرة جداً لكنك تعجز عن التحكم في ذاتك، أن تقود سيارتك حيث تحب لكنك لا تدري أين تقود نفسك!..

     أما أولئك الذين توحّد مصيرهم، وتواءمت أملاكهم الداخلية مع أملاكهم الخارجية، وعرفوا في حياتهم الغاية والنهاية والهدف، وطفقوا نحوها يسعون، فهم السعداء حقاً أياً كانوا وحيث كانوا.

     هذه السعادة الغامرة الهانئة، وهذا الأمن الباطني العميق، وهذا الرضى الهادئ الفخور.. افتقده في بلاده مثقف غربي كبير، وطفق يبحث عنه حتى وجده في ديار قوم آخرين.

     بصفاء ووضوح أخذتُ أروي خبراتي الشرقية إلى العالم الغربي الذي كنتُ في الأصل أنتمي إليه، ولما كنتُ قد اكتشفتُ، صلة بين الأمن العاطفي عند المسلمين وبين الإسلام الذي ينتمون إليه، كذلك بدأ يتضح لي أنّ افتقار أوروبا إلى الوحدة الداخلية الذاتية، وحالتها الأدبية والأخلاقية المضطربة، ربما كانا ناتجين عن فقدانها ذلك الاتصال بمعتقدها الديني الذي صاغ تجربة المدنية الغربية.

     هنا في أوروبا –كما قد رأيت– كان مجتمع يبحث عن تنظيم روحي جديد، بعد أن كان قد تخلّى عن الدين، إلا أنه كان ظاهراً أنّ عدداً قليلاً من الغربيين كانوا يدركون أي شيء عنه، ذلك أن الأكثرية كانت تفكر سواءً بطريقة واعية، أو غير واعية على النحو التالي تقريباً:

     بما أنّ إدراكنا وتجاربنا العلمية، وحساباتنا، لا تكشف عن شيء معين محدود عن أصل الحياة الإنسانية ومصائرها بعد موت الجسد، فإن علينا أن نركز جميع طاقاتنا في إنماء قوانا المادية والعقلية، وأن لا نسمح لأنفسنا بأن تشوّشها وتعرقلها الآداب والأخلاق التي هي فوق العقل، أو الافتراضات والادعاءات الأدبية والأخلاقية التي تقوم على ظنون وأوهام تزدري البرهان العلمي.
***

     هكذا طفق المثقف الغربي، يصف ديار قومه، ومبلغ ما يسودها من قلق بسبب تركها للدين الذي تثبت التجارب يوماً بعد يوم أنه أكبر باعث للسكينة، وطارد للقلق، وانكبابها الذي تحاول أن تسوّغه عقلياً على ملذات الدنيا، والانغماس فيها وعبِّ أكبر قدر ممكن منها. ومثل هذا كفيل بأن يجعل عالم الغرب، يحفل بألوان شتّى من الصعاب.

     عالم يعتريه الجيَشان والاضطراب، سفك دماء، وتدمير وعنف، إلى حد لم يسبق له مثيل، تهافت في كثير من التقاليد الاجتماعية، وتصادم بين المذاهب الفكرية، وصراع مرير في كل مكان في سبيل طرائق جديدة في الحياة.
***

     علامات عصرنا ما كانت إلا نُذُراً مرعبة، دخان الحرب العالمية ومجازرها، حروب لا تُحصى، جملة من الثورات والثورات المضادة، كوارث اقتصادية فاقت كل الكوارث التي سجّلت من قبل، من هذه الأحداث الهائلة كلها ظهرت الحقيقة:

     إن التركيز الغربي الحاضر في التقدم المادي، والفن الصناعي، لم يستطع مطلقاً أن يحوّل وحده الفوضى الحاضرة إلى كل شيء يشبه النظام.

× ولكنْ ألم يَنْمُ في الرجل اعتقاد جديد؟ ألم تبرز لديه قناعات جديدة!؟ وما معالم تلك القناعة يا ترى!؟

- لقد تبلور اقتناعي الفطري أيام الشباب بأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، لكنه ما لبث أن تحوّل إلى اقتناع عقلي جديد.

- إنها قناعة عقلية بأن عبادة التقدم التي سادت عصري المضطرب لم تكن أكثر من عوض سقيم مبهم عن إيمان قديم بالقيم المجرّدة، أي إيمان كاذب اخترعه أناس فقدوا جميع قدراتهم الداخلية على الإيمان بالقيم المجرّدة، وكانوا الآن يخدعون أنفسهم بالاعتقاد بأن الإنسان بطريقة ما، وبدافع تطوّري بحت، يستطيع أن يتغلب على مصاعبه الحالية.

- إنني لم أستطع أن أفهم كيف أنّ أياً من الأنظمة الاقتصادية الحديثة، التي انبثق من هذا الاعتقاد المضلِّل الخادع، يستطيع أن يشكل أكثر من مسكّن لبؤس المجتمع الغربي وشقائه!؟ إنها تستطيع في أفضل الأحوال أن تداوي بعضاً من الأعراض، لكنها لا تستطيع أن تداوي السبب الأصلي.

× ولكنْ ماذا أيضاً؟ ألم يكن الرجل يجد شيئاً من الاهتمامات التي كانت تشغل الناس في ديار ذويه!؟

- لا.. لم أكن أشعر بأي اندفاع نحو أي من الأهداف والمساعي التي غمرت الجوّ الثقافي في أوربا في ذلك الحين، وملأت أدبها وفنّها وسياستها بدويّ من المحاورات الناشطة. ذلك أنه مهما كانت معظم تلك الأهداف والمساعي متناقضة بعضها مع بعض؛ فإنها جميعاً كانت تشترك في أمر واحد: الافتراض الساذج أن الحياة يمكن أن تقال من فوضاها، وأن تصبح أفضل لو أنّ أحوالها الخارجية.. الاقتصادية والسياسية أصبحت أفضل.

- ما مِن ريب أنه افتراض محزن، وأنه حل للمشكلة يزيد من فداحتها وتعقيدها، لأنه ينصبّ على الجانب المادي وحده، ويُغفِلُ في الإنسان أشواقه وتطلعاته الأخرى التي تتجاوز نداء الجسد. إزاء هذا الافتراض المحزن الضال؛ كيف كان شعور الرجل يومذاك؟

- شعرتُ شعوراً قوياً أن التقدم المادي وحده، لم يستطع أن يوفر الحل، وبرغم أنني ما كنت أعرف تماماً.. أين يمكن إيجاد مثل هذا الحل!؟ فإنني لم أستطع مطلقاً أن أوضّح في ذاتي، ذلك الاندفاع الذي كان يبديه أبناء عصري نحو التقدم.
***

     وبمعزل عن المثقف الغربي الذي قدر له فيما بعد أن يهتدي ويسلم، فإن في الغربيين حيرةً وقلقاً واضطراباً باطنياً عميقاً، وهُم يتوهّمون أنّ أمنهم الباطني يمكن أن يستقر ويحقق لهم السعادة عن طريق الإغراق في المادة، وإهدار أشواق الروح، وما علم الضائعون أنهم صائرون إلى مزيد من الضياع.

     حين يُقَدَّرُ للإنسان أن يعاني ضروباً من الحيرة والقلق، فإن الهدوء ينأى عنه والسكينة تغادر أحناءه، ويقع فريسة لمخاوف وصراعات داخلية شتى.. تنوشه من كل مكان. ربما يتنقل في بقاع الأرض، وربما يعمل في مجالات عديدة، لكنه مع ذلك سيظل مرهقاً محزوناً مكدوداً؛ إلا إذا انتهى به المطاف إلى جادة الهداية وموكب الإيمان.
***

× تعال نجُبْ معاً أعماق شخص أوروبي عريض الثقافة عرف المرحلتين، عرف مرحلة القلق والضياع، وعرف مرحلة الهداية والإيمان، تعال نعِشْ مع عقله وقلبه، سلوكه ومشاعره، ونلحظ بدقة حواره مع ذاته، ومع اكتشافاته لدنيا جديدة غير التي أَلِفَها من قبل، والنُقلات الفكرية التي كانت تحدث في حياته والتي قادته في نهاية المطاف إلى الإسلام.

- كل هذه السنين الغارقة قد طفت على السطح الآن، وكشفت عن وجوهها مرة ثانية، ودعتني بأصوات عديدة، وفجأة خفق قلبي، وأدركت كم كان طويلاً لا نهاية له!.. قلتُ في ذات نفسي: لقد مضى عليك وقت طويل وأنت تسير وتسير دائماً، إنك لم تحوّل حياتك بعد إلى شيء يمكن إمساكه باليد، ولم يوجد مطلقاً حتى الآن أي جواب عن السؤال: إلى أين؟ لقد كنتَ ولا تزال تُغِذ السير تائهاً عبر أراضٍ عديدة، ضيفاً في مواطن كثيرة، ولكن الحنين والشوق لم يسكنا في أعماقك.

- ثقافتي الأوروبية، لقد خلّفتُها ورائي، ولم أشعر مرة بأني محتاج إليها، والحق أنني قد صرت بعيداً جداً عنها بحيث إني أجد من العسير عليّ، وبصورة متزايدة أن أكتب في الصحف الأوروبية التي أكسب منها معاشي. وكلما بعثتُ بمقالةٍ ما.. يبدو لي كأنما أرمي حجراً في بئر لا قرار لها، فالحجر يختفي في الفراغ المظلم، ولا يرجع إليَّ منه حتى الصدى، لأعلم أنه قد وصل إلى غايته.

× تلكم ملامح من البدايات، بدايات الرجل الفكرية الشاقة قبل إسلامه، ترى أكانت فترة هذه الصراعات والتساؤلات في أعماق الرجل فترة طويلة!؟ ترى هل كان طريقه إلى عالمه الجديد، عالم الإسلام، متعباً له؟

     حقاً لقد كان طريقاً طويلاً، ولكنه بالرغم من ذلك الطول فقد كان مستقيماً بسيطاً. هكذا سِرتُ من العالم الثقافي الأوروبي الذي لم أملكه قط، إلى آخر كان في الحقّ عالمي الخاص، وهو الإسلام.

     كانت لدى الرجل رغبة عميقة في الحركة، حركة الجسد في دنيا المسافات والأبعاد والأَرَضِين جعلته يرحل هنا وهناك، يسافر إلى أماكن نائية وبعيدة، ترى هل كانت هذه الحركة الجسديّة تعبيراً لا شعورياً عمّا كان فيه كم مِن قلق داخلي مرهق!؟

- لا بد أن تطوافي كله.. إنما كان في الحقيقة تعبيراً عن رغبة خبيئة في نفسي بلقاء عالم.. نظرته إلى مسائل الحياة الصميمة، إلى الحقيقة نفسها، تختلف عن كل ما أَلِفْتُه في طفولتي وشبابي. ما أطول الطريق من طفولتي وشبابي إلى أوروبا الوسطى إلى حاضري في ديار العرب، من النمسا إلى السعودية وباكستان، من اليهودية دين آبائي وأجدادي إلى الإسلام الذي أنتمي إليه الآن!.. لقد كان طريقاً طويلاً حقاً، لكنه في الوقت نفسه عذب وجميل.

× ترى هل درس الرجل الذي كان يهودياً دينه الأول الذي نشأ عليه بين أهله وذويه، أم أنه لم تُتَح له هذه الفرصة!؟

- بمقتضى تقاليدنا العائلية كنتُ قد درستُ على أيدي أساتذة خصوصيين، العلوم الدينية العبرانية بتعمق كبير، ولقد أنفقت الساعات الطوال في دراسة الكتب المقدسة. وهكذا لم أبلغ الثالثة عشرة من عمري حتى صار في إمكاني أن أقرأ العبرية، وأكتبها بسهولة، وأتحدث بها في طلاقة، كما أني حصّلت معرفة جيدة بالآرامية، وهذا يفسر السهولة الكبيرة التي تعلمتُ بها العربية فيما بعد.

× إنها دراسات عميقة تلك التي انكبّ عليها الرجل إبّان شبابه. ترى أي أثر تركَتْه فيه هذه الدراسات؟

- الحق أنّ هذه الدراسات أسهمت في إبعادي عن دين آبائي وأجدادي بسبب عددٍ من التناقضات التي وجدتها فيه، ثم إنه تبيّن لي واضحاً أن اليهودية ليست ديناً عالمياً، إلا أن خيبة الأمل التي أصابتني في ذلك الحين إزاء اليهودية لم تُؤَدِّ بي إلى أن أبحث عن الحقائق الروحية في جهات أخرى. لقد كنتُ حائراً. ولكي أكون منصفاً لنفسي، فعليَّ أن أؤكد بأنّ حيرتي لم تكن من صنع يدي، ذلك أنها كانت حيرة الجيل الذي انتميتُ إليه بأكمله.

- لقد تميّزت العقود الأولى من القرن العشرين بالفراغ الروحي، لقد أصبحت جميع القيم الروحيّة والأخلاقية التي أَلِفَتها أوروبا عدة قرون، غير ذات شكل مقرر محدّد، وذلك بفعل الفظائع التي كانت قد حدثت إبَّان الحرب العالمية الأولى.

- ولم يكن يبدو أن مجموعة جديدةً من القيم ستفرض نفسها. لقد كان في الجو شعور من الهشاشة والخطر، إحساس مسبق بالجيَشان الاجتماعي والعقلي جعل المرء يشك فيما إذا كان من الممكن أن يكون هناك مرةً أخرى أي استقرار في أفكار الإنسان ومساعيه.

- كان كل شيء يبدو وكأنه يسيل في فيضان غير منتظم، ولم تستطع الحيرة الروحية لدى الشباب أن تجد لنفسها موطئ قدم، وبسبب فقدان المقاييس الأخلاقية الموثوق بها، لم يستطع أحد أن يقدِّم إلينا نحن الشبان أجوبة مُرضية عن كثير من الأسئلة التي كانت تحيّرنا.

- كان العلم يقول: "المعرفة هي كل شيء"، ونسي أن المعرفة دونما هدف أخلاقي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الفوضى والغموض.

- إن المصلحين الاجتماعيين كانوا يريدون بناء عالم أفضل وأسعد، لكنهم لم يكونوا يفكّرون إلا بمقتضى ظروف خارجية، اجتماعية واقتصادية. هذا التحوّل الأخلاقي في الفرد، كان يمكن أن يؤدي إما إلى الفوضى الأخلاقية الكاملة والشك، أو إلى إيجاد مُلْتَمَس شخصي مبدع لما يمكن أن يشكل الحياة الطيبة.

- وحتى لو شعرت بنفسي مقيّداً ببقايا الفضيلة التقليدية؛ فقد كان من الصعب جداً عليّ أن أتفادى الانجراف في التيار الذي كان قد بدأ يجرف الكثيرين. لقد كنت أفخر كآخرين كثيرين من أترابي؛ بما كان يعتبر ثورة على التقاليد الجوفاء.

- لقد نما قلقي وتزايد، وجعل من العسير عليّ جداً أن أتابع دراستي في الجامعة، فإذا بي أتركها نهائياً لأعمل في الصحافة التي قادتني نحو بلاد العرب، التي قادتني آخر المطاف إلى الإسلام.

- حرية الإنسان في داخله بحيث يكون سيد نفسه.. من أخطر الأمور التي تجعل الإنسان يشعر بالاستقرار والطمأنينة والأمن، والاتّساق والانسجام. هذه الحرية تقدم للمرء حين تتوفر عطاءً في غاية الإيجابية والنفع والفاعلية، أما حين تغيب فإن نتائج في غاية السوء تترتب على غيابها، وعلى كل حال فإن حرية الإنسان الداخلية ثمرة غالية من ثمار الإيمان تنمو في بستانه الوارف الفينان.

- وحين يستعرض المرء سِيَرَ بعض الغربيين المهتدين الأذكياء يجد لديهم عناية بهذه الحرية وإكباراً لها، ويجد أن غيابها عند ذويهم، وتوفّرها عند بني الإسلام من العوامل المهمة في دفع حركة مسيرتهم نحو الهداية.

× ترى كيف نجد ذلك عند مهتدٍ أوروبي ذكي؟

- الأمن الباطني، الطمأنينة الراضية، الهدوء الفخور، الاتساق والتكامل والبِشْر، الانسجام والسلام والصفاء.. تلك أمور في غاية الخطورة، افتقدها هذا المثقف الأوروبي في عالم الحضارة الغربية، ومن خلال ما كتب عرفنا مبلغ حبّه وشوقه لهذه الأمور التي وجدها آخر المطاف في الإسلام.

× ترى هل يذكر الرجل كيف بدأ يجدها في غير بيئته وأهله؟

- أجلْ، كان ذلك في خريف عام 1922م، وكنت أعيش في بيت "خالي" بالقدس القديمة، وكانت السماء تمطر كل يوم تقريباً، فلم أستطع معه الخروج إلا قليلاً، لذا فإني كثيراً ما كنتُ أجلس إلى النافذة التي كانت تطل على فناء متّسع وراء البيت، وكان هذا الفناء ملكاً لرجل مسلم عجوز، وفي كل صباح قبيل الفجر كان يؤتى بأحمال الخضار إلى ذلك المكان من القرى المجاورة.

- كنت أرى الرجال وهم يعنون بالخضار والدواب معاً، كانوا فقراء لا تستر أجسامهم سوى ثياب رثة بالية، ولكنهم كانوا يتصرّفون كالسادة العظام!..

× كالسادة العظام، إنه أمر مستغرَب، ترى كيف كان ذلك؟

- عندما كانوا يجلسون على الأرض لتناول الطعام، ويأكلون أرغفة الخبز مع قليل من الجبن، أو حبات من الزيتون، لم أكنْ أستطيع إلا أن أعجب بنُبل جلدهم واحتمالهم وهدوئهم الداخلي.

- كنتَ تستطيع أن ترى أنهم يكنّون الاحترام لأنفسهم ولأمور حياتهم اليومية، وكان المسلم العجوز صاحب الفناء يتجول بينهم مستنداً إلى عصاه، ذلك أنّه كان يشكو التهاب المفاصل، كان يبدو كزعيم عليهم، فقد رأيت أنهم يطيعونه دون تردد أو سؤال.

- كان المسلم العجوز يجمع هؤلاء الرجال للصلاة عدة مرات في اليوم، وكانوا يؤدونها في الخلاء إذا لم يكن المطر ينهمر بغزارة، كانوا يقفون جميعاً في صف واحد طويل وكان هو الإمام، كانوا كالجنود في دقة حركاتهم، ذلك أنهم كانوا ينحنون معاً باتجاه مكة المكرمة، ثم ينهضون ثانيةً ليسجدوا وتمسّ جباههم التراب، كانون يتّبعون كلمات قائدهم التي عرفتها فيما بعد: "الله أكبر"، وكان يقف حافي القدمين، على سجادته المُعَدّة للصلاة، مغمض العينين، مكتوف الذراعين، محركاً شفتيه، شارداً في استغراق عميق. لقد كان بإمكانك أن ترى أنه كان يصلي بروحه كلها.

× ترى ما الذي أحس به صاحبنا إذ ذاك ولم يكن يومها مسلماً؟

- الحق أنه قد أزعجني أن أرى مثل تلك الصلاة العميقة مقترنة بحركات جسمية آليّة، فسألتُ المسلمَ العجوز ذات يوم وكان يفهم الإنكليزية قليلاً عن ضرورة هذه الحركات خلال الصلاة؟ ولم أكدْ أنطق بسؤالي حتى شعرتُ بالندم وتبكِيتِ الضمير، فما كنتُ أنوي أن أجرح شعور الشيخ الديني.

× ولكنْ ماذا كان رد الشيخ العجوز؟

- لم تبدُ عليه قطُّ علامات الاستياء، لقد افترّ فمه الخالي من الأسنان، وبدأ بتفسير مقنع بسيط، والحق أنه بذلك التفسير البسيط فتح لي أول باب للدخول في الإسلام، لقد بدأتُ أشعر بخضوع غير عادي كلما رأيتُ رجلاً يصلّي، يقف عاري القدمين على سجّادته المخصصة للصلاة، أو على حصيرة من قش، أو على الأرض العارية مكتوف الذراعين، محنيّ الرأس، مستغرقاً بالكليّة، ناسياً كل ما يجري حوله، سواءً كان ذلك في أحد المساجد، أو على رصيف أحد الشوارع المكتظة: رجلاً مطمئناً إلى نفسه.
***

     وإذن ففي ديارنا نحن المسلمين، عرف المثقف الأوروبي المهتدي، نموذجاً رائعاً للأمن الداخلي، لحرية الإنسان الباطنية، عرف ذلك لدى المسلم العجوز، في القدس، بعد أن أعياه الوصول إليه في أوروبا.

     في هذه الديار، وجد الرجل قبل إسلامه قوماً –هم مسلمون صادقون– يملكون هناءة نفسية عميقة، وأمناً باطنياً سابغاً، وطمأنينة مكينة راسخة، وهدوءاً عريضاً فخوراً، واتساقاً وتكاملاً وانسجاماً.

     تلكم النماذج مثّلت إلى حد بعيد وبشكل مشرّف، كيف يمتلك المسلم حريته الباطنية، سيادته على ذاته، إدراكه الغاية والطريقة، المصير والوسيلة!؟ كيف يوائم وينسّق بين مملكته الداخلية، وبين الأشياء الخارجية التي كانت تحيط به!؟ كيف يمضي في حياته على ثقة تامة من منهجه، ويقين راسخ بصحة طريقه، وإحساس غني عارم بالثقة والاستعلاء!؟

     وما مِنْ ريب أن هذه المكاسب الغنيّة، والهدايا الثمينة، التي تبدَّت للرجل الأوروبي، والتي كانت من أسباب إسلامه فيما بعد، إنما هي بعض العطاء العظيم الواسع الثري الذي يمنحه الإسلام، لمن ألقى إليه القياد، ومنحه وَحْدَه كامل ولائه، وأقبل على التعامل مع كنوزه الرائعة بفهم ووعي، وصدق وإخلاص.
*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة